والحق أن اعتراض أبي مسلم، ومثله بعض المعاصرين اليوم، منشؤه عدم فهم النّسخ على وجه الحقيقة.
فالنّسخ في الواقع ليس تغيرا في حال الخالق؛ بل هو تغيير في حال المخلوق، فهي أمور يبديها لا أمور يبتديها، أمور يظهرها لا أمور تظهر له، سبحانه وتعالى عما يقولون علوّا كبيرا.
والنّسخ لا يتعلّق بالعقائد والأخبار، وإنما يتعلّق بالإنشاء (١)، وهذا الباب متّصل بأحوال الخلق؛ إذ يصلحهم، ويصلح لهم في حال ما لا يصلحهم، ولا يصلح لهم في حال آخر.
ألا ترى أن الطبيب يأمرك بالحمية اليوم وينهاك عنها غدا، ويصف لك الدواء اليوم ويأمرك باجتنابه غدا، والطبيب هو الطبيب، لم يتغير في حاله، وفي عمله شيء، وإنما تغيّر المريض.
وأظهر الدلالة على وقوع النّسخ هذه الآية الصريحة التي لا يقرؤها أحد بحيدة إلا يفهم منها ما فهمته الأمة، وكذلك قول الله عزّ وجلّ: وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ [النّحل: ١٦/ ١٠١].
وأما وقوعه بالفعل فهو أكثر من أن يستدلّ له بمثال، ومع ذلك نعد من الأمثلة قول الله تعالى: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها [البقرة: ٢/ ١٤٢].
فهذا دليل ظاهر أنهم أمروا باستقبال قبلة، ثم نسخ هذا الأمر، وأمروا باستقبال سواها.