للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

إنك مستطيع، فما يمنعك؟ ولا يستقيم الكلام إلا على تقدير ذلك، ألا ترى أنه لا يصح أن يقول: (هل تستطيع أن يفعل غيرك) (١).

وأما قراءة الجمهور بالغيبة والرفع فيجب توجيهها إلى تأويل الاستطاعة بمعنى الرغبة، أي هل يرضى ربك أن ينزل المائدة إن سألته ذلك، كما يقول من يبتغي النصرة من عزيز: أتقدر أن تساعدني في ذلك، وهو يعلم قدرته واستطاعته، ولكنه لون من الأدب تعرفه العرب في كلامها (٢).

وقيل المعنى: هل يقدر ربك، وكان هذا السؤال في ابتداء أمرهم قبل استحكام معرفتهم بالله عزّ وجلّ؛ ولهذا قال عيسى في الجواب: (اتّقوا الله إن كنتم مؤمنين) (٣).

ولكن اعترض القرطبي على هذا التأويل لأن الحواريين خلفاء الأنبياء ودخلاؤهم وأنصارهم، كما قال الله حكاية عنهم وإقرارا لهم: قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ [الصّف: ٦١/ ١٤]، وقد قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن لكل نبي حواري، وحواريي الزبير» (٤)، ولا يخفى أن معرفة الله سبحانه أول الواجبات على المؤمن، فكيف يصبح هؤلاء حواريين للسيد المسيح ثم لا يعرفون صفة القدرة منه سبحانه وتعالى (٥).

ولعل أحسن تأويل لذلك أن يقال: إنهم عرفوا الله عزّ وجلّ معرفة استدلال وأخبار، فأرادوا علم معاينة وشهود، كما قال إبراهيم عليه السلام: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى [البقرة: ٢/ ٢٦٠]، فإن إبراهيم من أعظم المؤمنين بقدرة الله سبحانه وكماله ووحدانيته، ثم سأل الآية علّل ذلك بقوله: بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة: ٢/ ٢٦٠]، وكذلك قال الحواريون:

نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ [المائدة: ٥/ ١١٣].


(١) المصدر نفسه ٢٤١.
(٢) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ٦/ ٣٦٥.
(٣) المصدر نفسه ٦/ ٣٦٤.
(٤) أخرجه البخاري ومسلم عن جابر في كتاب الفضائل باب فضائل الزبير بن العوام. وأخرجه كذلك ابن عساكر عن الزبير، وأحمد في مسنده عن علي رضي الله عنه.
(٥) القرطبي ٦/ ٣٦٥.

<<  <   >  >>