للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الفصل الرابع شبهاتٌ وردُود

لا ريب أن الاعتقادات المسبقة عند الكثيرين تؤثِّر على نظرهم للأدلة، فكم من دليلٍ صحيح يعمى عنه الكاره له، ويقدح فيه بما ليس بقادح، وفي المقابل: كم من دليلٍ ضعيفٍ يستمسك به المحتاج إليه، المحبُّ له، ويستميت في تقويته، ولو كان أوهى من خيط العنكبوت! فحبُّ الشيء يعمي ويصم، والإنصاف: أن يعافي الله العبد من هذين النقيضين، فلا يرد الحق لأنه يخالف هواه، ولا يتكئ على الباطل لأنه صادف رضاه؛ وهذا ما نحاول هنا أن نتحرَّاه.

وهكذا كان سبيل أئمة السنة الأعلام، فتأمَّل هذا الكلام، ليتضح لك المقصد والمرام:

قال إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة: «وقد روى الوليد بن مسلم خبرا يتوهم كثير من طلاب العلم ممن لا يفهم علم الأخبار أنه خبر صحيح، من جهة النقل، وليس كذلك هو عند علماء أهل الحديث، وأنا مبيِّنٌ علله إن وفق الله لذلك، حتى لا يغتر بعض طلاب الحديث به، فيلتبس الصحيح بغير الثابت من الأخبار، قد أعلمت ما لا أحصي من مرة أني لا أستحل أن أموه على طلاب العلم بالاحتجاج بالخبر الواهي، وإني خائف من خالقي جل وعلا إذا موهت على طلاب العلم بالاحتجاج بالأخبار الواهية، وإن كانت حجة لمذهبي» (١).

فتأمل كيف أن ابن خزيمة يُعرض عن الأدلة الضعيفة التي تقوِّي مذهبه، وتنصره على خصمه، لأنه لا يستحلُّ أن يُدلس على الطلبة، ويخشى يوما يقف فيه بين يدي خالقه.

فقارن بين هذا وبين من يبترون النصوص، أو يلوون أعناقها، أو يوردون من الأدلة: المنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وما أكل السبع؛ كل ذلك لتقوية موقفهم وحجتهم!

{ألا يظنُّ أولئك أنهم مبعوثون}.

ونجد نموذجا مشرِّفا آخر عند أهل السنة، يورد ما يراه صحيحا من الأدلة، ثم لا يكتفي بصحته عنده، بل يرد طعون وشبهات خصمه على تلك الأدلة، حتى لا يبقيَ لأحد بعد ذلك حجة.

يقول الطبري: «القول في علل هذا الخبر، وهذا خبر عندنا صحيح سنده، وقد يجب أن يكون على مذهب الآخرين سقيما غير صحيح، وذلك: أنه ........ ».

هذه العبارة كثيرا ما ذكرها الطبري في كتابه العظيم: «تهذيب الآثار» (٢)، ثم يتبعها ببيان ما يُعل به منازعوه الخبر، ثم يأتي على بنيان هذه العلل من قواعدها، تاركاً إياها ركاما، بعد أن كانت عند أصحابها صرحا مشيدا!


(١) التوحيد لابن خزيمة (٢/ ٥٣٢ - ٥٣٣).
(٢) انظر على سبيل المثال: تهذيب الآثار (مسند علي- ٣/ ٣، ٤٥، ٦١، ٧٠).

<<  <   >  >>