للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[الخطوة الرابعة: الكتابة إلى أهل المدينة بطلب البيعة ليزيد]

لا شك أن كلمة أهل المدينة لها تأثير أكثر من غيرهم، فإن فيها أبناء الأنصار والمهاجرين، وأكثر العلماء والصالحين، ولذلك جعلهم معاوية في آخر من يتكلم معهم، لعلمه أن بعضهم سيعترض على هذا الأمر، فأراد أن يوطِّد الأمر في الأمصار المختلفة، ثم يتفرغ لأهل المدينة.

قال المدائني: «ثم كتب معاوية إلى مروان بن الحكم عامله على المدينة أن ادع أهل المدينة إلى بيعة يزيد؛ فإن أهل الشام والعراق قد بايعوا» (١).

وقد وقع ما كان معاوية يخشاه ويحذر منه.

جمع مروان الناس وخطب فيهم، وجعل يذكر يزيد وطلب معاوية البيعة له، وعندها: بدأ الاعتراض عليه، وكان من أوائل المعترضين: عبد الرحمن بن أبي بكر.

فعن يوسف بن ماهك، قال: «كان مروان على الحجاز استعمله معاوية، فخطب فجعل يذكر يزيد بن معاوية لكي يبايع له بعد أبيه، فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر شيئا، فقال: خذوه، فدخل بيت عائشة فلم يقدروا، فقال مروان: إن هذا الذي أنزل الله فيه، {والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني} [الأحقاف: ١٧]، فقالت عائشة من وراء الحجاب: ما أنزل الله فينا شيئا من القرآن إلا أن الله أنزل عذري» (٢).

وقد بيَّنت روايات أخرى سِرَّ تقدُّمِ عبد الرحمن عن غيره في الاعتراض على مروان.

فعن سالم بن عبد الله قال: «لما أرادوا أن يبايعوا ليزيد بن معاوية قام مروان فقال: سنة أبي بكر الراشدة المهدية، فقام عبد الرحمن بن أبي بكر فقال: ليس بسنة أبي بكر، وقد ترك أبو بكر الأهل والعشيرة والأصيل, وعمد إلى رجل من بني عدي بن كعب إذ رأى أنه لذلك أهل؛ فبايعه» (٣).


(١) العقد الفريد (٥/ ١١٩).
(٢) صحيح البخاري (٧٨٢٧).
(٣) حسنٌ بشواهده: أخرجه ابن أبي شيبة (٣٠٥٦٧) وفي سنده عمر بن حمزة، ضعيف، كما في التقريب (٤٨٨٤).

لكن له شاهد عند النسائي في الكبرى (١١٤٢٧) والحاكم (٨٤٨٣) من طريق محمد بن زياد الجمحي، قال: "لما بايع معاوية لابنه، قال مروان: سنة أبي بكر وعمر، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر: سنة هرقل وقيصر، فقال مروان: هذا الذي أنزل الله فيه {والذي قال لوالديه أف لكما} الآية، فبلغ ذلك عائشة فقالت: كذب والله، ما هو به، وإن شئت أن أسمي الذي أنزلت فيه لسميته، ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعن أبا مروان، ومروان في صلبه، فمروان فضض من لعنة الله".
وهذا سند رجاله ثقات، غير الذهبي نص في تعليقه على المستدرك أنه لم يسمع من عائشة، ونقله الحافظ ابن حجر في إتحاف المهرة (١٧/ ٥٢٢)، ولم نقف على كلام لأحد غير الذهبي ينفي سماع الجمحي من عائشة.
وثمَّ شاهد آخر، أخرجه البزار (٢٢٧٣)، وابن أبي حاتم في تفسيره -كما في تفسير ابن كثير (٧/ ٢٨٣)، والسياق له- والإسماعيلي في مستخرجه، وأبو يعلى -كما في فتح الباري (٨/ ٥٧٧) - من طريق عبد الله بن المديني قال: "إني لفي المسجد حين خطب مروان، فقال: إن الله أرى أمير المؤمنين في يزيد رأيا حسنا، وإن يستخلفه فقد استخلف أبو بكر عمر، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر: أهرقلية؟! إن أبا بكر والله ما جعلها في أحد من ولده، ولا أحدا من أهل بيته، ولا جعلها معاوية في ولده إلا رحمة وكرامة لولده. فقال مروان: ألست الذي قال لوالديه: أف لكما؟ فقال عبد الرحمن: ألست ابن اللعين الذي لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أباك؟ قال: وسمعتهما عائشة فقالت: يا مروان، أنت القائل لعبد الرحمن كذا وكذا؟ كذبت، ما فيه نزلت، ولكن نزلت في فلان بن فلان. ثم انتحب مروان، ثم نزل عن المنبر حتى أتى باب حجرتها، فجعل يكلمها حتى انصرف". وقد حسَّن الهيثمي هذا الإسناد في المجمع (٥/ ٢٤١).
وكذا يشهد له ما تقدم من رواية يوسف بن ماهك عند البخاري، فهذه الطرق بمجموعها ترتقي به إلى الحُسن إن شاء الله.

<<  <   >  >>