للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ما أبغض خالقه، وأن يرفع ما وضع مليكة.

ولو لم يدله على صغر هذه الدار الا أن الله تعالى حقرها ان يجعل خيرها ثوابا للمطيعين، وأن يجعل عقوبتها عذابا للعاصين. فاخرج ثواب الطاعة منها واخرج عقوبة المعصية عنها. وقد يدلك على شر هذه الدار ان الله تعالى زواها عن أنبيائه وأحبائه اختبارا، وبسطها لغيرهم اعتبارا واغترارا، ويظن المغرور بها والمفتون عليها أنه انما أكرمه بها، ونسي ما صنع بمحمد المصطفى صلى الله عليه وسلم وموسى المختار عليه السلام بالكلام له وبمناجاته. فأما محمد صلى الله عليه وسلم فشد الحجر على بطنه من الجوع، واما موسى عليه السلام فرئي خضرة البقل من صفاق بطنه من هزاله، ما سأل الله تعالى يوم أوى الى الظل الا طعاما يأكله من جوعه. ولقد جاءت الروايات عنه ان الله تعالى اوحى اليه، أن يا موسى إذا رأيت الفقر مقبلا فقل مرحبا بشعار الصالحين، وإذا رأيت الغنى قد اقبل فقل ذنب عجلت عقوبته. وان شئت ثلثته بصاحب الروح والكلمة [١] ففي امره عجيبة، كان يقول أدمي الجوع، وشعاري الخوف ولباسي الصوف، ودابتي رجلي، وسراجي بالليل القمر، وصلايتي في الشتاء الشمس، وفاكهتي وريحاني ما أنبت الأرض للسباع والانعام. أبيت وليس لي شيء واحد اغنى مني. ولو شئت ربعت بسليمان بن داود عليهما السلام، فليس دونهم في العجب. يأكل خبز الشعير في خاصته ويطعم اهله الخشكار والناس الدرمك [٢] فإذا جنه الليل لبس المسوح وغل اليد الى العنق وبات باكيا حتى يصبح، يأكل الخشن من الطعام ويلبس الشعر من الثياب. كل هذا يبغضون ما أبغض الله عز وجل، ويصغرون ما صغر الله تعالى، يزهدون فيما فيه زهد. ثم اقتصّ الصالحون بعد منهاجهم


[١] يريد عيسى بن مريم سلام الله عليه.
[٢] الخشكار: رديء الدقيق، والدرمك: الدقيق الحواري.

<<  <  ج: ص:  >  >>