للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

- ب -

هدىً من ربهم قد عدُّوا التقليد حلة انتقالية ينبغي أن يعيشَ فيها طالبُ العلمِ المتخصصُ الذي انتدب نفسه للتفقهِ في دينِ الله وخِدمة شريعته، ثم ينتقلَ منها إلى مرحلة الاتِّباعِ التي يكونُ فيها قد بلغ مرتبةً تؤهّله، بل توجِبُ عليه أن ينظرَ في أدِلَّةِ المسائل الخلافية، ويُوازنَ بينها، ويختارَ منها ما هو الصوابُ، ولا يجوزُ له أن يفتيَ في مسائلِ الخلاف إلا بما انتهى إليه أنه الصوابُ.

أما العامَّة فإنَّهم يقلِّدُونَ، لأنهم لا يتمتعون بما يُؤهِّلُهم للاجتهادِ، ولكن ينبغي عليهم أن يتخيَّروا التقيّ العالِم الذي يُوثق بعلمه وكفايته، فيسألونَه، ويَصْدُرُونَ عن رأيه، ويعملون بمقتضى ما يُفتيهم به.

هذا، ولم يكن أحدٌ من أهل العلم في تلكَ الفترةِ يُعْرَفُ بعلمِ الحديث روايةً ودِرَايةً لِيُرْجَعَ إليه، ويُؤخَذَ عنه، ويُستَفَادَ منه، وكنا نَجِدُ أحيانًا بعض الأحاديث في الكتب التي نقرؤُها، ولم نكن ندري أصحيحة هي أَمْ ضعيفة، وكنا نأخذها بطريقِ التسليم، وكان يتردَّدُ على ألسنة الخطباء والوُعّاظ أحاديثُ كثيرة يَغْلِبُ عليها الضعفُ والوضعُ، وكان مصدرُها - فيما تبيّن لنا بعدُ - الكتبَ التي لا تتحرّى الصحةَ، والتي يكثر فيها الضَّعيفُ والموضوعُ.

وأذْكُرُ على سبيلِ المثالِ هُنا ما وقع لي مِن ذلك، فقد حضرتُ خطبةَ الجمعةِ في أحدِ مساجدِ دمشق آنذاك، وكان الخطيبُ قد أَسْهَبَ في خطبته عن الجوعِ، وأن الإسلام يدعو إليه، ويُرغبُ فيه، ويحُثُّ عليه وأورد من الأحاديث الضعيفة والموضوعة التي نقلها من كتب الوعظ، وكان مِن جملة ما أورده في خطبته الحديثَ الصحيح الذي أخرجه البخاري، واختصره وزاد فيه، فأفسد معناه، فقال: "إن الشيطانَ يجري مِن ابن آدم مجرى الدَّمِ" (فضيّقوا مجاريه بالجوع) فلما انتهى من الصلاة دنوتُ منه

<<  <  ج: ص:  >  >>