ومقامُ السيدةِ بينهم مقامَ الأستاذِ من تلاميذه، فكان عمرُ بن الخطاب يُحيل عليها كُلَّ ما تعلق بأحكامِ النساء أو بأحوالِ النبي البيتية، لا يُضارعها في هذا الاختصاص أحدٌ مِن الرجال ولا النساء.
ويصِل إلى مسمع السيدة عن أولئك العلماءِ روايات وأحكام على غيرِ وجهها، فَتُصحح لهم ما أخطؤوا فيه، أو خفي عليهم، حتى عُرِفَ ذلك عنها فصار من شَكَّ في رواية أتى عائشةَ سائلًا، وإن كان بعيدًا، كَتَبَ إليها يسألُها. ومن هنا طار لها ذلك الصِّيتُ في التمكن من العلم، ورجع إلى قولها كبارُ الصحابة، كأبيها أبي بكر وعمر وابنه وأبي هريرة، وابن عباس وابن الزبير. وصار معاويةُ في خلافته يكتبُ إليها سائلًا عن حكم أو حديثٍ، أو شيءٍ من فعل النبيِّ ﷺ، ولا يَطْمَئِنُّ إلى يقين مما يسمع مِن غيرها حتى يَرِدَ عليه جوابُها، فيبردُ صدرُه. وستجد أن خطأ الصحابة كثيرًا ما يرجع إلى أنهم حضروا آخرَ الحديث، وفاتهم أوله. وسترى في كُلِّ ما تَسْتَدْرِكُ: صحةَ النظر، وصوابَ النقد، وحضورَ الحفظ، وجودةَ النقاش. وأغلبُ الأسبابِ في تَخَبُّطِ الرواياتِ أن الرواة يستنبطون الحكم من الجملة التي حضروها، وكثيرًا ما يكونُ الرسولُ ذكرها في مَعْرِضِ الإنكار، وترى ذلك في مرويات أبي هريرة بصورةٍ خاصة.
وكما اسْتَدْرَكَتْ على أبي هريرة ضياعَ أول الكلام عليه أو آخره، استدركت على كثيرين فَهُمَهُمْ لحديث، أو خطأَ استنباط حكم مِن آية، أو ضلالًا في معرفة أسبابِ النزول، أو اجتهادًا فيه مشقة على الناس. وكان الناسُ يقعون منها في كُلِّ ذلك على علم غزيرٍ، وفهم حصيفٍ، ورأي صائب. ولا غرو فقد كانت السيدةُ عائشة الملجأ الأخيرَ الذي ترفع إليه مسائل الخلاف والروايات وأحكام الشريعة لِتمحيصها، والقضاء فيها بالقول الفصل.