للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وترشح قوم للزعامة في العلم من غير استحقاق منهم لها فأحدثوا بجهلهم بدعًا استغروا بها العامة، واستجلبوا بها منفعة ورياسة، ووجدوا من العامة مساعدة لمشاكلتهم لهم، وقرب جوهرهم منهم، فكل قرين إلى شكله كأنس الخنافس بالعقرب، وفتحوا بذلك طرقًا منسدة، ورفعوا بها ستورًا مسبلة، وطلبوا منزلة الخاصة فوصلوا إليها بالوقاحة وبما فيهم من الشرة، فبدَّعوا العلماء وكفروهم اغتصابًا لسلطانهم ومنزاعة في مكانهم، فأغروا بهم أتباعهم حتى وطؤوهم بأخفافهم وأظلافهم فتولد من ذلك البوار والجور العام.

[ذكر من يصلح لوعظ العامة]

لا يصلح الحكيم لوعظ العامة لا لنقص في الحكيم، بل لنقص في العامي فلن ترى الشمسَ أبصارُ الخفافيش، وأيضًا فبين الحكيم والعامي من تنافي طبعيهما وتنافر شكليهما من النفار قريب مما بين الماء والنار والليل والنهار، وقد قيل لسلمة بن كهيل

ما لعلي - رضي الله عنه - رفضته العامة وله في كل خير ضرس قاطع، فقال: لأن ضوء عيونهم قصر عن نوره، والناس إلى أشكالهم أميل، وبهذا النظر لما قال جاهل لحكيم: إني أحبك، فقال له: نعيت إليَّ نفسي، فقيل له: ولم ذلك، فقال: لأنه إن صدق فليس ميله إليَّ إلا لنقيصة بدت من نفسي لنفسه فأنست بها، وعلى هذا قول الشاعر:

لقد زادني حبا لنفسي أنني ... بغيض إلى كل امرئ غير عاقل

فحق الواعظ أن تكون له مناسبة إلى الحكماء ليقدر على الاقتباس عنهم والاستفادة منهم، ومناسبة إلى الدهماء حتى يقدروا بها على الأخذ منه كالوزير للسلطان الذي يجب أن يكون فيه أخلاق الملوك، وتواضع السوقة ليصلح أن يكون واسطة بينه وبينهم، وكالنبي الذي جعله الله من البشر وأعطاه قوة الملك ليمكنه أن يأخذ عن الملك ويمكن البشر أن يأخذوا عنه، وإلى هذا أشار تعالى بقوله: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا)

تنبيهًا أنه ليس في وسعهم التلقي عن الملك ما لم يتجسم فيصير في

صورة رجل. فإذن حق الواعظ أن تكون له نسبة إلى الحكيم ونسبة إلى العامة يأخذ منه ويعطيهم، كنسبة الغضاريف إلى اللحم والعظم جميعًا، ولولاها لما أمكن العظم أن يكتسب الغذاء من اللحم، وهذا مما إذا تؤمل اطلع منه على حكمة عجيبة وصنعة غريبة.

<<  <   >  >>