أصلهما في القول، ولا يكونان بالقصد الأول من القول إلا في الخبر دون غيره من أصناف الكلام، فأما بالعرض فقد يدخل في أنواع الكلام من الاستفهام والأمر والدعاء، وذلك أن يقول القائل: أزيد في الدار، في ضمنه إخبار بكونه جاهلًا بحال زيد، وكذلك
إذا قال: واسني، في ضمنه أنه محتاج إلى المواساة، وإذا قال: لا تؤذني؛ في ضمنه أنه يؤذيه، وكلاهما - أعني الصدق والكذب - يستعمل في الاعتقاد أيضًا كقولهم:
صدق ظننه واعتقاده وكذبا، ويستعملان أيضًا في أعمال الجوارح نحو: صدقوهم القتال وكذبوهم، وحد صدق التام هو مطابقة القول الضمير والخبر عنه، ومتى انخرم شرط من ذلك لم يكن صدقًا تامًا، بل إما أن لا يوصف بالصدق والكذب، أو يوصف تارة بالصدق وتارة بالكذب على نظرين مختلفين؛ كقول الكافر: إذا قال من غير اعتقاد
محمد رسول اللَّه، فإن هذا يصح أن يقال فيه: إنه صدق لكون الخبر عنه كذلك، ويصح فيه أن يقال: إنه كذب لمخالفة قوله ضميره؛ ولهذا كذبهم اللَّه تعالى حيث قال:(إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (١)
وكذلك إذا قال من لم يعلم كون زيد في الدار: إنه في الدار،
يصح أن يقال: صدق وأن يقال: كذب باعتبار نظرين مختلفين؛ ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: " من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ "، وفي لفظ آخر:" فقد كذب على اللَّه "، والمتوسم لا قصد له، فإذا قال: زيد في الدار؛ لا يقال: أنه صدق ولا كذب.
والصدق أجدر أركان بقاء العالم حتى لو توهم مرتفعًا لما صح نظامه وبقاؤه، وهو أصل المحمودات وركن النبوات، ونتيجة التقوى، ولولاه لبطلت أحكام الشرائع؛ ولذلك قال تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (١١٩)
والاختصاص بالكذب انسلاخ عن الإنسانية فخصوصية الإنسان النطق، ومن عرف بالكذب لم يعتمد نطقه، ومن لم يعتمد نطقه لم ينفع، وإذا لم ينفع نطقه صار هو والبهيمة سواء، بل يكون شرًّا من البهيمة، فإن البهيمة وإن لم تنفع بلسانها فإنها لا تضر، والكاذب يضر ولا ينفع،