للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أن شرف الصناعة يتبين من أوجه:

إما بحسب النسبة إلى القوة المبرزة لها كفضل معرفة الحكمة على معرفة اللغات، فإن الأولى متعلقة بالقوة العقلية، وهذه بالقود الحسية، والعقل أشرف من الحس.

وإما بحسب عموم النفع كفضل الزراعة على الصياغة.

وإما بحسب شرف الوضوع المعمول فيه كشرف الصياغة على الدباغة.

وقد علم أن الحكمة تدرك بالقوة المفكرة، وهي أشرف قوة في الإنسان، وأنه يتوصل بها إلى جنة المأوى، وذلك أبلغ نفع، وموضوعها الذي تعمل فيه نفوس البشر، وهي أفضل موضوع يعمل فيه، بل أفضل موجود في هذا العالم.

وإفادة العلم من وجه صناعة، ومن وجه عبادة، ومن وجه أجل خلافة للَّه تعالى، فإن اللَّه تعالى مع استخلافه قد فتح على قلبه العلم الذي هو أخص صفاته تعالى، فهو خازن لأجلِّ خزائنه، وقد أذن له في الإنفاق على كل أحد ممن لا يفوته الإنفاق عليه، وكلما كان إنفاقه على ما يجب، وكما يجب أكثر كان جاهه عند مستخلفه أوفر.

[في أن أصول الصناعات مأخوذة من الوحي]

أصول الصناعات والمكاسب مأخوذة عن وحي، وذلك أن نقص البشر وحاجة بعضهم إلى بعض أمر ظاهر، والناقص محتاج إلى الكامل، فلا يخلو: إما أن يكون قد أخذ ذلك واحد عن واحد بلا نهاية، وذلك إيجاب ما لا نهاية له وهو محال.

وإما أن ينتهي إلى واحد من البشر علمه اللَّه الصناعات، إما بسماع من الملأ

الأعلى، أو بإلهام أو منام، وهذا هو الوحي، فمعلوم لذي اللب أن قوى العقاقير وطبائع الحيوانات مما لا يمكن إدراك خواصها بأفهام البشر وتجربتهم، ورؤساء كل صناعة يقرون بذلك. فأهل النجوم يقولون: مبادئ النجوم من هرمس، ويقولون: هو الذي عرج بروحه إلى السماء واطلع على ذلك، ويقولون هو قبل إدريس - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك أصحاب الطب يدعون مثل ذلك في معرفة الأدوية.

واختصاص كل واحد من الموجودات بفعل له على حدته، وانحسار العقل عن توهم

<<  <   >  >>