التكسب في الدنيا وإن كان معدودا من المباحات من وجه، فإنه من الواجبات من وجه، وذلك أنه لما لم يكن للإنسان الاستقلال بالعبادة إلَّا بإزالة ضروريات حياته، فإزالتها واجبة، لأن كل ما لا يتم الواجب إلَّا به فواجب كوجوبه.
وإذا لم يكن له إلى إزالة ضرورياته سبيل إلا بأخذ تعب من الناس فلا بد إذًا أن يعوضهم تعبا من عمله وإلَّا كان ظالمًا، فمن توسع في تناول عمل غيره في مأكله وملبسه ومسكنه وغير ذلك فلا بد أن يعمل لهم عملا بقدر ما يتناوله منهم، وإلَّا كان ظالما لهم، سواء قصدوا إفادته أو لم يقصدوها، فمن رضي بقليل من عملهم فلم يتناول من دنياهم إلَّا قليلًا يرضى منه بقليل من العمل، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: " من رضي من الله بقليل الرزق رضي اللَّه منه بقليل العمل "، ومن أخذ منهم المنافع ولم يعطهم
نفعًا فإنه لم يأتمر للَّه تعالى في قوله:(وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى)
ولم يدخل في عموم قوله:(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)
ولهذا ذم من يدعي التصوف فيتعطل عن المكاسب، ولم يكن له علم يؤخذ منه، ولا عمل صالح في الدين يقتدي به، بل يجعل همه عارية بطنه وفرجه. فإنه يأخذ منافع الناس ويضيق عليهم معاشهم، ولا يرد إليهم نفعًا، فلا طائل في مثلهم إلَّا بأن يكدروا المشارع، ويغلوا الأسعار، ولهذا الشأن كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إذا نظر إلى ذي سيماء سأل عنه: أله حرفة، فإن قيل: لا، سقط من عينيه.
وقد استحسن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وفد عبد القيس لما سألهم، فقال: " ما المروءة؟