واعلم أنه لا يكون المتعفف عفيفًا إلا بشرائط، وهي: أن لا يكون تعففه عن الشيء انتظارًا لأكثر منه أو لأنه لا يوافقه، أو لجمود شهوته، أو لاستشعار خوف من عاقبته، أو لأنه ممنوع من تناوله، أو لأنه غير عارف به لقصوره، فإن ذلك كله ليس بعفة، بل هو إما اصطياد، أو تطبب، أو مرض، أو خرم، أو عجز، أو جهل. وترك ضبط النفس عن
الشهوة أذم من تركها عن الغضب فالشهوة مغتالة مخادعة، والغضب مغالب، والمتحيز عن قتال الخادع أردى حالًا من المتحيز عن قتال المغالب؛ ولهذا قيل: عبد الشهوة أذل من عبد الرق، وأيضا بالشره قد يجهل عيبه فهو شبيه بأهل مدينة لهم سنة رديئة يتعاطونها
ولا يعرفون قبحها، وليس من تعاطى قبيحًا يعرفه كمن يتعاطاه وهو يظنه حسنًا.
[القناعة والزهد]
القناعة: الرضا بما دون الكفاية، والزهد: الاقتصار على الزهيد، أي: القليل وهما يتقاربان، لكن القناعة تقال اعتبارًا برضا النفس، والزهد يقال اعتبارًا بالمتناول لحظ النفس وكل زهد حصل لا عن قناعة فهو تزهُّد لا زهد، لذلك قال بعض المتصوفة:
القناعة أول الزهد تنبيهًا على أن الإنسان أولًا يحتاج إلى قنع نفسه والتخصص بالقناعة ليسهل تعاطي الزهد، فالقناعة هي الغنى في الحقيقة، والناس كلهم فقراء من وجهين:
أحدهما: لافتقارهم إلى اللَّه تعالى كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (١٥)
والثاني: لكثرة حاجاتهم فأغناهم أقلهم حاجة، ومن سد مفاقره بالمقتنيات فما في انسدادها طمع فإنه كمن يرقع الخرق بالخرق ويسد
الفقر بالفقر، ومن سدها بالاستغناء عنها بمقدار وسعه والاقتصار على تناول مقدار ضرورياته فهو الغني والقريب من الله، كما أشار إليه فيما حكي عن طالوت:(إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ)
ولأن الغنى هو عدم الحاجة فأغناهم أقلهم حاجة، ولذلك كان اللَّه تعالى أغنى الأغنياء، لأنه لا حاجة به إلى شيء، وعلى ذلك دل النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله:" ليس الغنى بكثرة العرض، وإنما الغنى غنى النفس " ومن