أي: إذا توهم ارتفاع النطق الذي هو اللسان والقوة الناطقة التي هي بالفؤاد
لم يبق إلا صورة اللحم والدم، فإذا كان الإنسان هو الإنسان بذلك فلا شك أن من كان أكثر منه حظا كان أكثر منه إنسانية.
والصمت من حيث ما هو صمت مذموم فذلك من صفة الجمادات فضلًا عن
الحيوانات، وقد جعل اللَّه تعالى بعض الحيوانات بلا صوت، وجعل لبعضها صوتًا بلا تركيب، ومن مدح الصمت فاعتبارًا بمن يسيء في الكلام فيقع منه جنايات عظيمة في أمور الدين والدنيا.
كما روي أن الإنسان إذا أصبح كفرت أعضاؤه لسانه فتقول: اتق اللَّه فينا، فإنك إن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا، فأما إذا اعتبرا بنفسيهما فمحال أن يقال في الصمت فضلٌ فضلًا أن يخاير بينه وبين النطق، وقد سئل حكيم عن أفضلهما: فقال: الصمت أفضل حتى يحتاج إلى النطق وسئل آخر فقال:
الصمت عن الخنا أفضل من الكلام بالخطا وعنه أخذ الشاعر فقال:
الصمت أحسن بالفتى ... من منطق في غير حينه
والفرق بين الصمت والسكوت، والإنصات والإصاخة أن:
الصمت: أبلغ لأنه قد يستعمل فيما لا قوة فيه للنطق، وفيما له قوة النطق، ولهذا قيل لما لا نطق له: الصامت والمصمت.
والسكوت: يقال لما له نطق فترك استعماله.
والإنصات: سكوت مع استماع، ومتى انفك أحدهما عن الآخر لا يقال له في الحقيقة: إنصات، وعلى ذلك قال تعالى:(وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٢٠٤)
فقوله:(وَأَنْصِتُوا) بعد قوله: (فَاسْتَمِعُوا) يدل أن الإنصات بعد الاستماع ذكر خاص بعد عام.
والإصاخة: الاستماع إلى ما يصعب إدراكه؛ كالسر والصوت من المكان البعيد.