والثالث: رجل أعمى عين البصيرة متلطخ السريرة بما ارتكب من أنواع الجريرة، رضي بالحياة الدنيا واطمأن بها. ويئس من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور، فإذا خرج منها إلى دار الخلود أضر ذلك به كما تضر رياح الورد بالجعل، وإذا خرج من قاذورات الدنيا لم يوافقه العالم العلوي بمصاحبة الملأ الأعلى ومنادمة أولي العلا فيعمى كما قال تعالى:(وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (٧٢)
ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: " الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر "، وأجدر بمن تربي في هذا العالم بغذائه من العلم والعمل الصالح أن لا يشتاق إليه بعد خروجه منه وإن خرج مكرهًا كما لا يشتاق إلى الرجوع إلى بطن أمه بعد الخروج منه، ويدلك على أنه خرج من بطن أمه كارهًا بكاؤه، فقد قال بعض الحكماء القدماء: أول ما ينال الصبي غمه
عند سقوطه من بطن أمه لا يضغطه من ضيق خروجه ويصيبه من ألم الهواء فيتوجع، والوجع يورثه الغم، والغم يحمله على البكاء، وذلك أن للصبي كل ما يكون للحيوان غير النطق من اللذة والألم والجوع والعطش، ومن هذا المعنى أخذ ابن الرومي فقال:
لما تؤذن الدنيا به من صروفها ... يكون بكاء الطفل ساعة يولد
وإلا فما يبكيه منها وإنها ... لأفسح مما كان فيه وأرغد
وقال ابن عباس - رضي الله عنه -: ما أحد إلا والموت خير له من الحياة، لأن اللَّه تعالى قال في الأخيار:(وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (١٩٨)
وقال في الأشرار:(إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا)
وقد قيل: الصالح إذا مات استراح من الدنيا، والطالح إذا مات استراحت منه الدنيا.
وقال بعض الحكماء: من قال لغيره: صانك الله من نوب
الأيام وصروف الزمان فإنه يدعو له بالموت، فالإنسان لا ينفك من ذلك إلَّا بخروجه من دار الكون والفساد، وقال بعض الصوفية: حق ملك الموت أن يحبه المسلم من بين الملائكة فضل محبة من حيث إنه أحد أسباب تعويضه الحياة السنية الأبدية من حياته الدنية الدنيوية، ولهذا أمرنا أن نقول في دعائنا: اللَّهم صلِّ على جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت، فإن جبريل وميكائيل هما سببان لإنهائنا من ذلك العالم بما فيه خلاصنا من
دار الكون والفساد. وملك الموت سبب لإخراجنا من دار الكون والفساد فإذًا حقه