للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فإنه إن كان فيها أدنى شبهة فللسلطان العفو لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ادرؤوا الحدود بالشبهات "

وإن لم يكن شبهة فليس له العفو؛ ولهذا قال تعالى في الزنى: (وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ.

وحق المعاقب أن لا يكون سبعًا في انتقامه، بل لا يعاقب حتى يزول غضبه؛ لئلا يقدم على ما ليس بواجب؛ ولذلك جرت سنة السلطان بحبس المجرم حتى ينظر في جرمه ويعيد النظر فيه.

وقد قال بعضهم: ينبغي للسلطان أن يؤخر العقوبة حتى ينقضي سلطان غضبه، ويعجل مكافأة المحسن، ويستعمل الأناة فيما يحدث، ففي تأخير العقوبة إمكان العفو إن أحب ذلك، وفي تعجيل المكافأة بالإحسان مسارعة الأولياء إلى الطاعة، وقد أتي الإسكندر بمذنب فصفح عنه، فقال بعض جلسائه: لو كنت إياك لقتلته، فقال: فإذا لم أكن أنا إياك ولا أنت إياي فلست بقاتله، وانتهى إلى بعض أصحابه وهو يغتابه، فقيل له: لو أنهكته عقوبة فقال حينئذ: أبسط لسانًا وعذرًا في اغتيابي.

واعلم أن لذة العفو أطيب من لذة التشفي، لأن لذة العفو يلحقها حمد

العاقبة، ولذة العقوبة يلحقها ذم الندم، والعقوبة أَلْأَمُ حالات ذوي القدرة، وهي طرف من الجزع، ومن رضي أن لا يكون بينه وبين الظالم له إلَّا ستر رقيق فلينتصف، وقد نبه اللَّه تعالى على ذلك بلطيف من المقال، فقال تعالى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا)

فسمى مجازاة المسيء بإساءته إساءة، وقال تعالى: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ)

فسمى المجازي على الاعتداء معتديًا؛ تنبيهًا على أنه قد كاد يكون إيَّاه.

والعقوبات فيما بين الناس أقبحها ما كان فيما لم يظهر بالفعل، فقد قال بعض

الملوك: إنما نملك الأجساد دون الضمائر، ونفحص عن الظواهر لا عن السرائر، فمن سلم ظاهره احتملت جرائره، فقد يهفو المرء ونيته سليمة، ويزل وطريقته مستقيمة.

<<  <   >  >>