للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

القلوب، فإن الرجل البليغ ذا البيان وذا الإيضاح وذا اللسان الجميل الفصيح يؤثر على القلوب حتى يسبيها، وربما قلب الحق باطلا والباطل حقا ببيانه.

"فقد يستعمل السحر مقيداً فيما يمدح ويحمد؛ نحو خبر: (إن من البيان لسحراً).أي أن بعض البيان سحر، لأن بعضه يوضح المشكل، ويكشف عن حقيقة المجمل بحسن بيانه، فيستميل القلوب، كما يستمال بالسحر، وقيل لما كان في البيان من إبداع التركيب، وغرابة التأليف، ما يجذب السامع، ويخرجه إلى حد يكاد يشغله عن غيره، شبه بالسحر الحقيقي" (١).

البيان: البلاغة والفصاحة. وصدق نبيُّ الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنَّ الرجل يكون عليه الحقُّ وهو ألحنُ بالحجج من صاحب الحق (٢)، فيسحرُ القومَ ببيانه فيذهب بالحق. وقال ابنُ عبد البر: تأولته طائفة على الذم؛ لأن السحر مذموم، وذهب أكثر أهل العلم وجماعة أهل الأدب إلى أنه على المدح؛ لأن الله تعالى مدح البيان. وقد قال عمرُ بن عبد العزيز - رحمه الله - لرجلٍ سأله عن حاجة فأحسن المسألة؛ فأعجبه قوله. قال: "هذا والله السحر الحلال"انتهى (٣).

والطائفة التي تأولته على الذم رأت أن المراد به البيان الذي فيه تمويهٌ على السامع وتلبيس، كما قال بعضهم شعراً:

ففي زخرف القول تزيينٌ لباطله ... والحقُّ قد يعتريه سوءُ تعبير (٤)

مأخوذ عن قول الشاعر:

تقول هذا مُجاج (٥) النحل تمدحُه ... وإنْ تشأ قلت ذا قيءُ الزنابير (٦)


(١) التفسير الكبير (٣/ ٢٠٥ - ٢٠٦)، وينظر: أعلام الحديث للخطابي (٣/ ١٩٧٦ - ١٩٧٧)، المسائل العقدية في فيض القدير للمناوي عرض ونقد (ص ٣٣٧).
(٢) (فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض)، أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الأحكام باب من أقام البينة بعد اليمين برقم (٢٦٢٥).
(٣) فتح المجيد (ص ٣٢٨ - ٣٢٩)، معالم السنن للخطابي (٤/ ١٣٦).
(٤) من كلام أحمد بن شافع الجيلاني (ت ٥٦٥ هـ) ذكره ابنُ رجب في التاريخ (١/ ٣١٣).
(٥) المُجَاجُ بالضم والمُجَاجَةُ أيضا الريق الذي تمجه من فيك يقال المطر مُجَاجُ المزن والعسل مُجَاج النحل.
ينظر: غريب الحديث للخطابي (١/ ١٨٨)، مختار الصحاح (١/ ٦٤٢)، مقاييس اللغة (٥/ ٢١٥).
(٦) والزنابير: جمع زنبور، وهو كل ذباب أليم اللسع من النحل وغيره.
ينظر: المعجم الوسيط (١/ ٤٠٢)، تاج العروس من جواهر القاموس (١١/ ٤٥٢)، بغية الإيضاح لتلخيص المفتاح في علوم البلاغة لعبد المتعال الصعيدي (١/ ٢٤٨).

<<  <   >  >>