قال القاضي أبو بكر:"هذا كتاب اخترعه مالك رضي الله عنه في التصنيف، لفائدتين إحداهما أنه خارج عن رسم التكليف المتعلق بالأحكام التي صنفها أبوابًا ورتبها. والأخرى: أنه، رضي الله عنه، لما لحظ الشريعة وأنواعها، ورآها مقسمة إلى أمر ونهي، وإلى عادة وعبادة، وإلى معاملات وجنايات، نظمها أسلاكًا، وربط كل نوع بجنسه، وشذت عنه من الشريعة معان مفردة لم يتفق نظمها في سلك واحد، لأنها متغايرة المعاني؛ ولا أمكن أن يجعل لك لمنها باباً لصغره، فجمعها أشتاتًا، وسمى نظامها كتاب الجامع".
واعلم أنها وإن كانت آحادها في أنفسها كما أشار إليه، إلا أنها يمكن ضبطها وحصرها من حيث الإضافة والنسبة. وإذا أخذت بهذا الاعتبار انحصرت في ثلاثة أجناس: ما يتعلق بالعقيدة، وما يتعلق بالأقوال، وما يتعلق بالأفعال.
[الجنس الأول ما يتعلق بالعقيدة]
ويتعين على المكلف أن يكون على عقيدة صحيحة في التوحيد، وفي صفات الله (عز وجل وتعالى وتقدس، وتصديق رسله صلوات الله عليهم، فيؤمن بأن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ملكه، ولا نظير له في صفة من صفات إلهيته، ولا قسيم له في أفعاله، وأن محمدًا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، وأن جميع ما جاء به من حق وجميع ما أخبر عنه وبه صدق.
وأما القيام بدفع [شبه] المبتدعة فلا يتعرض له إلا من طالع علوم الشريعة وحفظ الكثير منها، وفهم مقاصدها وأحكامها، وأخذ ذلك عن الأئمة وفاوضهم فيها، وراجعهم في ألفاظها وأغراضها، وبلغ درجة الإمامة في هذا العلم بصحبة إمام أو أئمة أرشدوه إلى وجه الصواب، وحذروه من الخطأ والضلال، حتى تثبت الحق في نفسه وفهمه ثبوتًا قوي به على رد شبه المخالفين، وإبطال حجج المبطلين، فيكون القيام بدفع الشبه فرض كفاية عليه وعلى أمثاله حينئذ، فأما غيرهم قال يجوز له التعرض (لذلك)، لأنه ربما ضعف عن رد تلك