إنما تنصب الدعوة مع هذه الوفود على ذكر محاسن الإسلام، وعلى التركيز على لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. وكانت الحركة الإسلامية تعيش في ظل الجاهلية، في ظل المجتمع الذي تترع فيه الخمور، وتنصب فيه الرايات الحمر للزانيات، وفي ظل الأصنام التي بلغت ثلاثمائة ومع ذلك لم يتعرض المسلمون لهذه المفاسد أو يقاوموها، أو يوجهوا جهدهم للنيل منها أو تحطيمها، لقد كانوا بعيدين عن هذا كله. واتجه همهم إلى الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة. والحركة الإسلامية في مثل هذه المرحلة تتخذ هذا الموقف، تبتعد عن المواجهة ومواطن الإثارة، وتكف أيديها عن القتال من خلال أوامر القيادة.
لم يكن صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضي الله عنهم جبناء ولا أذلاء، بل كانوا يعانون من الضبط والالتزام بعدم القتال ما لا يعلمه إلا الله، وكانوا يعانون من الضغط على أعصابهم والكبت على نفوسهم ما يكون القتال معه أهون بألف مرة عليهم، ومع ذلك لم نسمع عن مخالفة واحدة، واندفاع مفاجىء واحد. في الوقت الذي نرى فيه في أيامنا من يضع النصوص في غير محلها من الشباب المتحمس، فيود أن يخوض معركة من أجل كلمة، ويواجه الطغيان المنكر القائم، ويتهم الناس في دينهم وعقيدتهم إذا لم يقاتلوا معه. ونحن ندعو هؤلاء الناس إلى التبصر والتثبث، ومراعاة طبيعة المرحلة التي تقدرها قيادة الحركة. ويتعلمون من رسول الله وصحابته الصبر على البلاء، والحياة مع الفكرة من دون أن يكون الثأر للنفس، والغضب للذات، أو حتى لمحارم الله أن تنتهك - قبل الأوامر الصادرة، هو المحرك لتصرفاتهم. إن الحركة الإسلامية المنظمة المنضبطة، هي التي قبلت في مرحلة من المراحل أن توضع سلي البعير وأمعاؤه على عنق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دون أن يقتل الفاعل، وقبلت أن يبصق في وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دون أن يؤدب السفيه، وقبلت محاولات خنق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دون أن يقضى على المجرم. لا عن خوف أو جبن في نفوس الأصحاب الذين يفدون رسولهم بكل وجودهم. إنما قبلت ذلك لأن الأوامر الصادرة لا تسمح بالثأر، ولا تسمح برد الفعل، ولا تسمح بالغضب التلقائي.