الله - صلى الله عليه وسلم - قاعد، فقال: امصص بظر اللات. أنحن ننكشف عنه؟ قال: من هذا يا محمد: قال: هذا ابن أبي قحافة، قال: أما والله لولا يد كانت لك عندي لكافأتك بها ولكن هذه بها، قال. ثم جعل يتناول لحية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يكلمه. والمغيرة بن شعبة واقف على رأس رسوله الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديد. قال فجعل يقرع يده إذا تناول لحية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويقول: أكفف يدك عن وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن لا تصل إليك. فيقول عروة: ويحك ما أفظك وأغلظك. قال: فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له عروة: من هذا يا محمد؟ قال هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة قال: أي غدر، وهل غسلت سوءتك إلا بالأمس ... فقام من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد رأى ما يصنع أصحابه لا يتوضأ إلا ابتدروا وضوءه وإلا يبصق بصاقا إلا ابتدروه ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه. فرجع إلى قريش فقال يا معشر قريش إني قد جئت كسرى في ملكه، وقيصر في ملكه، والنجاشي في ملكه، وإني والله ما رأيت ملكا في قوم قط مثل محمد في أصحابه ولقد رأيت قوما لا يسلمونه لشيء فروا رأيكم) (١).
فلقد عاد عروة بن مسعود بعد هذه الجولة داعية لمحمد - صلى الله عليه وسلم - على غير وعي منه بدل أن يحمس الناس على حربه لقد هزمت قريش وهزم عروة أمام صلابة الصف المسلم الذي أبدى من ضروب الطاعة والانضباط والالتزام ما أذهل عروة وهزمه في أعماقه لقد بالغ المسلمون في إظهار الطاعة أمام العدو الغادر ما لم يفعلوه من قبل، وجيش هذا طبيعته وهذه نفسيته. يجابه به قوى الأرض لا قريش وحدها أو قريش ومعها ثقيف والأحابيش، حتى الهادىء الوديع الحليم أبو بكر ينقلب أمام عدو الله ليثا يزأر، ويتهكم بأسلوب فج من عروة سيد ثقيف وعقله حين أراد أن يفتن الصف بتخويفه من قوة قريش ويضرب القيادة بالقاعدة فيثني عزيمة محمد عن الحرب لتفرق أصحابه عنه فكان لا بد أن يسمع ما يكره بأسلوب ما عهد عن أبي بكر قط رضي الله عنه. وكلام غير عفيف يجعل عروة في جحره لا يتعداه وكان الرد الثاني أعنف وأشد من المغيرة بن شعبة فلئن اعتدت قريش بعروة الثقفي معها فالبطل الثقفي المغيرة هو سيف محمد صلوات الله عليه ولا يفل الحديد إلا الحديد إن عظمة النبوة السياسية التي لا تدانيها عظمة هي في حسن استعمال اللين في محله والعنف في محله .. لقد ارتد كيد قريش في نحرها، وهزمت نفسيا أمام محمد صلوات الله عليه وصحبه وجنده وراحت تعالج أمرها بعد خطبة ابن مسعود فيها من باب المفاوضة لا من باب التهديد والمواجهة وصار الصف المسلم القادم إلى العمرة بألف وخمسمائة أقوى بألف مرة من صف قريش وثقيف والأحابيش الذي تزعزع وهدد بعضه بالسلاح.
إنه درس عظيم للحركة الإسلامية، درس للقيادة التي تتقن فن التعامل مع العدو فتحطم أعصابه، وتهز نفسه من الأعماق وتتعامل مع الخصوم كل حسب طبيعته ونفسيته.