وكانت أزمته الثانية عندما بلغه التجمع الهائل وهو في معان وهو وجود حوالي مائتي ألف من العرب والروم قد تهيؤوا للقائهم ومضوا يناقشون الأمر وقالوا: نكتب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنخبره بعدد عدونا فإما أن يمدنا بالرجال، وإما أن يأمرنا بأمره ولم يكن من بين الحلول المطروحة أن يعودوا إلى المدينة. وكل ما يخشونه أن تكون المواجهة مغامرة غير جائزة أن يواجهوا هذا العدد الضخم بقوتهم الضئيلة. وما أعتقد أن جيشا في الأرض لا تنهار معنوياته أمام هذه المواجهة وبينهم هذا الفارق في العدد والعدة ولكن هذا الدين الذي ضرب جذوره في أعماق هذه العصبة المؤمنة، جعل منهم نموذجا آخر لا يبارى في التاريخ وجعل لدى الجيش تلك الأرضة التي تقبل قول الأمير الشاعر ابن رواحة رضي الله عنه.
(والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون الشهادة. وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة إنما نقاتلهم بهذا الدين الذي أكرمنا الله به فانطلقوا، فإنما هي إحدى الحسنيين إما ظهور وإما شهادة).
وأمكن لهذه الكلمة أن تفعل في الجيش كله فعل السحر، وانطلق الجيش للمواجهة قائلين قد والله صدق ابن رواحة.
إن فكرة الشهادة والأمل برضوان الله تعالى ودخول الجنة قد أثبت التاريخ عمليا أنها أقوى دافع في هذا الوجود للمواجهة والموات. لأن المسلم على يقين أن ما عند الله خير وأبقى للمسلم من كل شيء فلا يتوانى لحظة واحدة عن الإقبال على الموت تغمره السعادة ويحدوه الرضا بقضاء الله وقدره. وكلا الأمرين لا يدري أيهما أحب إليه النصر أو الشهادة. وهذه الروح المعنوية التي رافقت الجيش المسلم في كل معاركه هي التي رجحت كفته دائما على عدوه. ودانت له الأرض بسبب ذلك.
وكانت الأزمة الثالثة العنيفة لحظة المواجهة؛ أو المفروض أن تكون الأزمة لكن الروح المعنوية العالية، على ما تذكر الروايات، لم تفارق الجيش وهو بعدده الضئيل أمام ذلك الجيش العرمرم وكانت القيادات من الكفاءة بحيث تتسابق أمام جنودها على الموت. وكأنما هي تتجهز له تجهز العروس لعروسه.
(قال ابن إسحاق: ثم التقى الناس فاقتتلوا، فقاتل زيد بن حارثة براية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى شاط في رماح القوم.)