أشرف بيوتات مكة ما كان الأذى لينالهن أبدا، وربما كان وراء هذه الهجرة أسباب أخرى كإثارة هزة في أوساط البيوت الكبيرة في قريش. وأبناؤها الكرام المكرمون يهاجرون بعقيدتهم، فرارا من الجاهلية، تاركين وراءهم كل وشائج القربي، في بيئة قبلية تهزها هذه الهجرة على هذا النحو هزا عنيفا، وبخاصة حين يكون من بين المهاجرين مثل أم حبيبة بنت أبي سفيان، زعيم الجاهلية، وأكبر المتصدين لحرب العقيدة الجديدة وصاحبها، ولكن مثل هذه الأسباب لا ينفي احتمال أن تكون الهجرة إلى الحبشة أحد الاتجاهات المتكررة في البحث عن قاعدة حرة، أو آمنة على الأقل للدعوة الجديدة. وبخاصة حين نضيف إلى هذا الاستنتاج ما ورد عن إسلام نجاشي الحبشة. ذلك الإسلام الذي لم يمنعه من إشهاره نهائيا إلا ثورة البطارقة عليه - كما ورد في روايات صحيحة - (١)).
هذه اللفتة العظيمة من سيد - رحمه الله - لها من السيرة ما يعضدها ويساندها، وأهم ما يؤكدها في رأيي هو الوضع العام الذي انتهى إليه أمر مهاجرة الحبشة.
فلم نعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد بعث في طلب مهاجرة الحبشة حتى مضت هجرة يثرب وبدر وأحد والخندق والحديبية. والمعروف أن عمرو بن أمية الضميري - مبعوث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى النجاشي - التقى مع عمرو بن العاص عند النجاشي بعد صلح الحديبية، وكان لكل واحد منهما مهمة عند النجاشي، أما عمرو بن العاص فلقد اختار اللجوء السياسي عند النجاشي بعد صلح الحديبية حيث رأى أن مكة ستفتح بين يدي محمد لا محالة بعد الصلح، ولا جدوى من المقاومة.
وأما عمرو بن أمية الضميري فلقد كانت مهمته طلب عودة المهاجرين من الحبشة إلى يثرب من النجاشي حيث قد انتهت مهمتهم بعد الصلح.