«أَنَّ النَّبِيَّ ﵊ نَهَى عَنْ الْمُكَامَعَةِ وَهِيَ الْمُعَانَقَةُ، وَعَنْ الْمُكَاعَمَةِ وَهِيَ التَّقْبِيلُ». وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا قَبْلَ التَّحْرِيمِ. قَالُوا: الْخِلَافُ فِي الْمُعَانَقَةِ فِي إزَارٍ وَاحِدٍ، أَمَّا إذَا كَانَ عَلَيْهِ قَمِيصٌ أَوْ جُبَّةٌ فَلَا بَأْسَ بِهَا بِالْإِجْمَاعِ وَهُوَ الصَّحِيحُ. قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِالْمُصَافَحَةِ)؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَوَارَثُ. وَقَالَ ﵊ «مَنْ صَافَحَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ وَحَرَّكَ يَدَهُ تَنَاثَرَتْ ذُنُوبُهُ».
فَصْلٌ فِي الْبَيْعِ
قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ السِّرْقِينِ، وَيُكْرَهُ بَيْعُ الْعَذِرَةِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ بَيْعُ السِّرْقِينِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ فَشَابَهُ الْعَذِرَةَ وَجِلْدَ الْمَيْتَةِ قَبْلَ الدِّبَاغِ. وَلَنَا أَنَّهُ مُنْتَفَعٌ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يُلْقَى فِي الْأَرَاضِيِ لِاسْتِكْثَارِ الرِّيعِ فَكَانَ مَالًا، وَالْمَالُ مَحَلٌّ لِلْبَيْعِ. بِخِلَافِ الْعَذِرَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنْتَفَعُ بِهَا إلَّا مَخْلُوطًا. وَيَجُوزُ بَيْعُ الْمَخْلُوطِ هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ مُحَمَّدٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَكَذَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِالْمَخْلُوطِ لَا بِغَيْرِ الْمَخْلُوطِ فِي الصَّحِيحِ، وَالْمَخْلُوطُ بِمَنْزِلَةِ زَيْتٍ خَالَطَتْهُ النَّجَاسَةُ.
الْمُعَانَقَةُ فِي الْغَالِبِ. وَإِنَّمَا الَّذِي يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يُلَازِمَ الْمُكَامَعَةَ وَالْمُعَانَقَةَ فِي الْغَالِب. وَلَا شَكَّ أَنَّ أَحَدَ الْمُتَلَازِمَيْنِ لَا يَكُونُ عَيْنَ الْآخَرِ كَالْأُبُوَّةِ وَالْبُنُوَّةِ فَكَيْفَ يَصِحُّ تَفْسِيرُ إحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى. وَلَوْ سَلِمَ صِحَّةُ التَّفْسِيرِ بِاللَّازِمِ بِنَاءً عَلَى الْمُسَامَحَةِ لَمْ يُفِدْ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ الْمُضَاجَعَةَ لَمَّا وُجِدَتْ بِدُونِ الْمُعَانَقَةِ وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ الْغَالِبِ كَانَتْ الْمُعَانَقَةُ أَخَصَّ مِنْ الْمُضَاجَعَةِ. فَلَمْ يَصِحَّ تَفْسِيرُ الْمُكَامَعَةِ الَّتِي هِيَ الْمُضَاجَعَةُ بِالْمُعَانَقَةِ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ التَّفْسِيرِ بِالْأَخَصِّ، وَنَظَرُ صَاحِبِ الْغَايَةِ إنَّمَا هُوَ فِي تَفْسِيرِ الْمُكَامَعَةِ بِالْمُعَانَقَةِ لَا غَيْرُ.
وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: وَفَسَّرَهَا الْمُصَنِّفُ بِالْمُعَانَقَةِ مَعَ أَنَّ الْمُكَامَعَةَ هِيَ الْمُضَاجَعَةُ. فِي دِيوَانِ الْأَدَبِ وَغَيْرِهِ: كَامَعَ امْرَأَتَهُ ضَاجَعَهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْمُعَانَقَةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا نُهِيَ مِنْ الْمُضَاجَعَةِ هُوَ مَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ الْمُعَانَقَةِ لِعَدَمِ الْخِلَافِ فِي إبَاحَةِ الْمُضَاجَعَةِ لَا عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ، عَلَى أَنَّ الْمُكَامَعَةَ بِحَسَبِ اللُّغَةِ هِيَ الْمُضَاجَعَةُ الْمَخْصُوصَةُ لَا مُطْلَقُ الْمُضَاجَعَةِ. فِي الْقَامُوسِ: كَامَعَهُ: ضَاجَعَهُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، إلَى هُنَا كَلَامُ ذَلِكَ الْبَعْضِ فِي شَرْحِهِ. وَقَالَ فِي الْحَاشِيَةِ: فِيهِ رَدٌّ عَلَى صَاحِبِ الْغَايَةِ. أَقُولُ: كُلٌّ مِنْ مُقَدِّمَاتِ كَلَامِهِ مَجْرُوحٌ. أَمَّا قَوْلُهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْمُعَانَقَةِ تَعْلِيلًا لِتَفْسِيرِ الْمُصَنِّفِ الْمُكَامَعَةَ بِالْمُعَانَقَةِ فَظَاهِرُ الْبُطْلَانِ، لِأَنَّ كَوْنَ الْكَلَامِ فِي الْمُعَانَقَةِ كَيْفَ يُسَوِّغُ تَفْسِيرَ الْمُكَامَعَةِ بِغَيْرِ مَعْنَاهَا، وَهَلْ يَقُولُ الْعَاقِلُ بِتَغْيِيرِ مَعْنَى لَفْظِ الْحَدِيثِ لِيَكُونَ مُطَابِقًا لِمُدَّعَاهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا نُهِيَ مِنْ الْمُضَاجَعَةِ هُوَ مَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ الْمُعَانَقَةِ فَمَمْنُوعٌ، إذْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الثِّقَاتِ بِهَذَا التَّخْصِيصِ عِنْدَ بَيَانِ الْمُرَادِ بِالْمُكَامَعَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِيثِ. بَلْ أَطْلَقُوهَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُ فِي الْفَائِقِ: «نَهَى النَّبِيُّ ﷺ عَنْ الْمُكَاعَمَةِ وَالْمُكَامَعَةِ»: أَيْ عَنْ مُلَاثَمَةِ الرَّجُلِ الرَّجُلَ وَمُضَاجَعَتِهِ إيَّاهُ لَا سُتْرَةَ بَيْنَهُمَا انْتَهَى.
وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي الصِّحَاحِ: وَكَامَعَهُ مِثْلَ ضَاجَعَهُ، وَالْمُكَامَعَةُ الَّتِي نُهِيَ عَنْهَا فِي الْحَدِيثِ أَنْ يُضَاجِعَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ لَا سُتْرَةَ بَيْنَهُمَا انْتَهَى.
وَقَالَ الْمُطَرِّزِيُّ فِي الْمُغْرِبِ: نَهَى عَنْ الْمُكَاعَمَةِ وَالْمُكَامَعَةِ: أَيْ عَنْ مُلَاثَمَةِ الرَّجُلِ الرَّجُلَ لَا سُتْرَةَ بَيْنَهُمَا وَمُضَاجَعَتِهِ إيَّاهُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ لَا سُتْرَةَ بَيْنَهُمَا. هَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِهِمَا فِي الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ الْقَاسِمِ بْنِ سَلَامٍ وَابْنِ دُرَيْدٍ وَغَيْرِهِمَا. وَهَكَذَا حَكَاهُ الْأَزْهَرِيُّ وَالْجَوْهَرِيُّ انْتَهَى.
وَأَمَّا قَوْلُهُ لِعَدَمِ الْخِلَافِ فِي إبَاحَةِ الْمُضَاجَعَةِ لَا عَلَى ذَاكَ الْوَجْهِ فَمَمْنُوعٌ أَيْضًا، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ شَنَاعَةَ مُضَاجَعَةِ الرَّجُلِ الرَّجُلَ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ لَا سُتْرَةَ بَيْنَهُمَا لَيْسَتْ بِأَقَلِّ مِنْ شَنَاعَةِ مُجَرَّدِ الْمُعَانَقَةِ وَلَوْ فِي غَيْرِ دَاخِلِ الثَّوْبِ، فَكَيْفَ يَقُولُ بِإِبَاحَةِ الْأُولَى مَنْ لَا يَقُولُ بِإِبَاحَةِ الثَّانِيَةِ سِيَّمَا عِنْدَ إطْلَاقِ لَفْظِ الْحَدِيثِ بَلْ كَوْنُهُ حَقِيقَةً فِي نَفْسِ الْمُضَاجَعَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَى أَنَّ الْمُكَامَعَةَ بِحَسَبِ اللُّغَةِ هِيَ الْمُضَاجَعَةُ الْمَخْصُوصَةُ لَا مُطْلَقُ الْمُضَاجَعَةِ، وَاسْتِشْهَادُهُ عَلَيْهِ بِمَا فِي الْقَامُوسِ فَلَيْسَ بِمُقَيَّدٍ أَصْلًا؛ لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الْمُضَاجَعَةُ الْمَخْصُوصَةُ إلَّا أَنَّ مَعْنَاهَا لَيْسَ عَيْنَ مَعْنَى الْمُعَانَقَةِ وَلَا مُسَاوِيًا لَهُ فِي التَّحَقُّقِ لِانْفِكَاكِ تَحَقُّقِ كُلٍّ مِنْهُمَا عَنْ الْآخَرِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ كَمَا عَرَفْته مِنْ قَبْلُ فَكَيْفَ يَصِحُّ تَفْسِيرُ الْمُكَامَعَةِ بِالْمُعَانَقَةِ كَمَا هُوَ حَاصِلُ نَظَرِ صَاحِبِ الْغَايَةِ، فَمِنْ أَيْنَ يَحْصُلُ الرَّدُّ عَلَيْهِ بِمَا ذَكَرَهُ ذَلِكَ الْقَائِلُ، وَلَعَمْرِي إنَّ مَفَاسِدَ قِلَّةِ التَّأَمُّلِ مِمَّا يَضِيقُ عَنْ الْإِحَاطَةِ بِهِ نِطَاقُ الْبَيَانِ، وَاَللَّهُ ﷾ الْمُسْتَعَانُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute