(فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ الْيَمِينِ وَالِاسْتِحْلَافِ)
قَالَ (وَالْيَمِينُ بِاَللَّهِ ﷿ دُونَ غَيْرِهِ) لِقَوْلِهِ ﵊ «مَنْ كَانَ مِنْكُمْ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَذَرْ» وَقَالَ ﵊ «مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ» (وَقَدْ تُؤَكَّدُ بِذِكْرِ أَوْصَافِهِ) وَهُوَ التَّغْلِيظُ، وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ: قُلْ وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ عَالَمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الَّذِي يَعْلَمُ مِنْ السِّرِّ مَا يَعْلَمُ مِنْ الْعَلَانِيَةِ، مَا لِفُلَانٍ هَذَا عَلَيْك وَلَا قِبَلَك هَذَا الْمَالُ الَّذِي ادَّعَاهُ وَهُوَ كَذَا وَكَذَا وَلَا شَيْءَ مِنْهُ. وَلَهُ أَنْ يَزِيدَ فِي التَّغْلِيظِ عَلَى هَذَا وَلَهُ أَنْ يَنْقُصَ مِنْهُ، إلَّا أَنَّهُ يَحْتَاطُ فِيهِ كَيْ لَا يَتَكَرَّرَ عَلَيْهِ الْيَمِينُ
فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ الْيَمِينِ وَالِاسْتِحْلَافِ).
لَمَّا ذَكَرَ نَفْسَ الْيَمِينِ أَيْ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ يَحْلِفُ ذَكَرَ فِي هَذَا الْفَصْلِ صِفَتَهَا لِأَنَّ كَيْفِيَّةَ الشَّيْءِ وَهِيَ مَا يَقَعُ بِهِ الْمُشَابَهَةُ واللَّامُشَابَهَةُ صِفَتُهُ وَالصِّفَةُ تَقْتَضِي سَبْقَ الْمَوْصُوفِ (قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ: (وَالْيَمِينُ بِاَللَّهِ دُونَ غَيْرِهِ لِقَوْلِهِ ﵊ «مَنْ كَانَ مِنْكُمْ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَذَرْ») أَقُولُ: هَاهُنَا كَلَامٌ وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ: الْيَمِينُ بِاَللَّهِ أَوْ بِاسْمٍ آخَرَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ كَالرَّحْمَنِ وَالرَّحِيمِ أَوْ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ الَّتِي يَحْلِفُ بِهَا عُرْفًا كَعِزَّةِ اللَّهِ وَجَلَالِهِ وَكِبْرِيَائِهِ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْيَمِينَ كَمَا تَكُونُ بِاَللَّهِ تَعَالَى تَكُونُ أَيْضًا بِصِفَاتِهِ الَّتِي يُحْلَفُ بِهَا فِي الْمُتَعَارَفِ، وَالْحَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ هَاهُنَا وَالْيَمِينُ بِاَللَّهِ تَعَالَى دُونَ غَيْرِهِ يَقْتَضِي اخْتِصَاصَ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى. وَأَيْضًا قَالَ هُنَاكَ: وَإِنْ قَالَ: إنْ فَعَلْت هَذَا فَهُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ أَوْ كَافِرٌ يَكُونُ يَمِينًا، وَالْحَصْرُ الْمُسْتَفَادُ هَاهُنَا يُنَافِيهِ أَيْضًا. وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ قَدْ اُشْتُهِرَ مِنْ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَتْ عَيْنَ الذَّاتِ وَلَا غَيْرَهَا، فَعَلَى هَذَا لَا يُنَافِي قَوْلُهُ دُونَ غَيْرِهِ صِحَّةَ الْيَمِينِ بِصِفَاتِهِ الْمَذْكُورَةِ وَلَا يُنَافِيهَا أَيْضًا اخْتِصَاصُ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى بِمَعْنًى لَا بِغَيْرِهِ كَمَا يُفِيدُهُ قَوْلُهُ دُونَ غَيْرِهِ.
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الْيَمِينَ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ بِاَللَّهِ تَعَالَى فِي ظَاهِرِ الْحَالِ إلَّا أَنَّهَا كَانَتْ بِهِ فِي الْمَآلِ فَتَأَمَّلْ. وَفِي الْمَبْسُوطِ: إنَّ الْحُرَّ وَالْمَمْلُوكَ وَالرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ وَالْفَاسِقَ وَالصَّالِحَ وَالْكَافِرَ وَالْمُسْلِمَ فِي الْيَمِينِ سَوَاءٌ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْقَضَاءُ بِالنُّكُولِ، وَهَؤُلَاءِ فِي اعْتِقَادِ الْحُرْمَةِ فِي الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ سَوَاءٌ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ (وَقَدْ تُؤَكَّدُ) أَيْ الْيَمِينُ (بِذِكْرِ أَوْصَافِهِ) أَيْ بِذِكْرِ أَوْصَافِ اللَّهِ تَعَالَى، هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ، قَالَ الْمُصَنِّفُ: (وَهُوَ التَّغْلِيظُ، وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ قُلْ: وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَعْلَمُ مِنْ السِّرِّ) وَالْخَفَاءِ (مَا يَعْلَمُ مِنْ الْعَلَانِيَةِ مَا لِفُلَانٍ هَذَا عَلَيْك وَلَا قِبَلَك هَذَا الْمَالُ الَّذِي ادَّعَاهُ، وَهُوَ كَذَا وَكَذَا وَلَا شَيْءَ مِنْهُ وَلَهُ) أَيْ وَلِلْقَاضِي (أَنْ يَزِيدَ فِي التَّغْلِيظِ عَلَى هَذَا) أَيْ عَلَى الْمَذْكُورِ (وَلَهُ أَنْ يَنْقُصَ مِنْهُ) أَيْ مِنْ الْمَذْكُورِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الِاسْتِحْلَافِ النُّكُولُ، وَأَحْوَالُ النَّاسِ فِيهِ مُخْتَلِفَةٌ؛ مِنْهُمْ مَنْ يَمْتَنِعُ إذَا غُلِّظَ عَلَيْهِ الْيَمِينُ وَيَتَجَاسَرُ إذَا حَلَفَ بِاَللَّهِ فَقَطْ، ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَمْتَنِعُ بِأَدْنَى تَغْلِيظٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَمْتَنِعُ إلَّا بِزِيَادَةِ تَغْلِيظٍ، فَلِلْقَاضِي أَنْ يُرَاعِيَ أَحْوَالَ النَّاسِ.
وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ ﵁ فِي «الَّذِي حَلَفَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْك الْكِتَابَ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ» (إلَّا أَنَّهُ يَحْتَاطُ كَيْ لَا يَتَكَرَّرَ عَلَيْهِ الْيَمِينُ) وَالْمُرَادُ بِالِاحْتِيَاطِ أَنْ يَذْكُرَ بِغَيْرِ وَاوٍ، إذْ لَوْ ذَكَرَ:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute