وَتَقْدِيرُ الشَّرْعِ لَا يَكُونُ دُونَ تَقْدِيرِ الْقَاضِي، فَلَا يَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ، وَبِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهَا (وَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى عُرُوضٍ جَازَ) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَظْهَرُ الْفَضْلُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(بَابُ التَّبَرُّعِ بِالصُّلْحِ وَالتَّوْكِيلِ بِهِ)
(وَمَنْ وَكَّلَ رَجُلًا بِالصُّلْحِ عَنْهُ فَصَالَحَ لَمْ يَلْزَمِ الْوَكِيلَ مَا صَالَحَ عَنْهُ إِلَّا أَنْ يَضْمَنَهُ،
إِنَّ هَذَا اعْتِيَاضٌ عَنِ الثَّوْبِ وَالْحَيَوَانِ حُكْمًا؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي ذِمَّةِ الْغَاصِبِ حَقًّا لِلْمَالِكِ مِثْلَ الْحَيَوَانِ وَالثَّوْبِ مِنْ جِنْسِهِ؛ لِأَنَّهُ ضَمَانُ عُدْوَانٍ، فَيَكُونُ مُقَيَّدًا بِالْمِثْلِ. وَالْمِثْلُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ هُوَ الْمِثْلُ صُورَةً وَمَعْنًى؛ وَلِهَذَا كَانَ الْوَاجِبُ مِنْ جِنْسِهِ فِي غَيْرِ الثَّوْبِ وَالْحَيَوَانِ، نَحْوَ الْمُكَيَّلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ، وَإِيجَابُ الْحَيَوَانِ وَالثَّوْبِ فِي الذِّمَّةِ مُمْكِنٌ، كَمَا فِي النِّكَاحِ وَالدِّيَةِ، إِلَّا أَنَّ عِنْدَ الْأَخْذِ يُصَارُ إِلَى الْقِيمَةِ ضَرُورَةَ أَنَّ أَخْذَ الْمِثْلِ صُورَةً وَمَعْنًى غَيْرُ مُمْكِنٍ إِلَّا بِسَابِقَةِ التَّقْوِيمِ، وَالْآخِذُ وَالدَّافِعُ لَا يَعْرِفَانِ ذَلِكَ حَقِيقَةً لِمَا فِيهِ مِنَ التَّفَاوُتِ الْفَاحِشِ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَاللَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِذَلِكَ، فَصَحَّ مَا ادَّعَيْنَا أَنَّ هَذَا اعْتِيَاضٌ عَنِ الثَّوْبِ وَالْحَيَوَانِ، فَيَجُوزُ كَيْفَمَا كَانَ، انْتَهَى.
وَالْعَجَبُ مِنْ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ أَنَّهُ بَعْدَ مَا نَظَرَ إِلَى النِّهَايَةِ وَسَائِرِ الْمُعْتَبِرَاتِ وَاطَّلَعَ عَلَى مَا فِيهَا كَيْفَ وَقَعَ فِي تِلْكَ الْوَرْطَةِ؟ ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْمِثْلِيَّ إِذَا انْقَطَعَ حُكْمُهُ كَالْقِيمِيِّ لَا يُنْتَقَلُ فِيهِ إِلَى الْقِيمَةِ إِلَّا بِالْقَضَاءِ فَقَبِلَهُ إِنْ تَرَاضَيَا عَلَى الْأَكْثَرِ كَانَ اعْتِيَاضًا فَلَا يَكُونُ رِبًا بِخِلَافِ الصُّلْحِ بَعْدَ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ قَدِ انْتَقَلَ إِلَى الْقِيمَةِ، انْتَهَى.
أَقُولُ: عُذْرُهُ أَقْبَحُ مِنْ ذَنْبِهِ؛ لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ هَاهُنَا لَيْسَ بِصَدَدِ بَيَانِ الْمَسْأَلَةِ حَتَّى تُفِيدَ إِشَارَتُهُ إِلَى اشْتِرَاكِ الْمَسْأَلَتَيْنِ فِي الْحُكْمِ شَيْئًا، بَلْ هُوَ هَاهُنَا فِي مَقَامِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الصُّلْحِ عَنِ الثَّوْبِ الْمُسْتَهْلَكِ عَلَى أَكْثَرِ مِنْ قِيمَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يُفِدِ الدَّلِيلُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُدَّعِي بِنَاءً عَلَى كَوْنِ الْمُدَّعِي فِي الْقِيمِيِّ، وَكَوْنِ الدَّلِيلِ مَخْصُوصًا بِالْمِثْلِيِّ، كَمَا زَعَمَهُ لَا يُتِمُّ الْمَطْلُوبُ، فَيَخْتَلُّ الْكَلَامُ لِعَدَمِ إِيفَائِهِ حَقَّ الْمَقَامِ، وَلَا تُجْدِي الْإِشَارَةُ إِلَى أَمْرٍ أَجْنَبِيٍّ عَنِ الصَّدَدِ نَفْعًا، كَمَا لَا يَخْفَى.
قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: لِمَا كَانَ تَصَرُّفُ الْمَرْءِ لِنَفْسِهِ أَصْلًا قَدَّمَهُ عَلَى التَّصَرُّفِ لِغَيْرِهِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالتَّبَرُّعِ بِالصُّلْحِ لِمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ فِي الْعَمَلِ لِغَيْرِهِ مُتَبَرِّعٌ، وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْغَايَةِ وَصَاحِبُ الْعِنَايَةِ.
أَقُولُ: إِنَّ قَوْلَهُمْ هُوَ الْمُرَادُ بِالتَّبَرُّعِ بِالصُّلْحِ لَيْسَ بِسَدِيدٍ؛ إِذْ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالتَّبَرُّعِ بِالصُّلْحِ هَاهُنَا مُجَرَّدَ التَّصَرُّفِ لِغَيْرِهِ لَكَانَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَالتَّوْكِيلِ بِهِ مُسْتَدْرِكًا لِتَنَاوُلِ التَّبَرُّعِ بِالصُّلْحِ بِمَعْنَى مُجَرَّدِ التَّصَرُّفِ لِغَيْرِهِ مَا حَصَلَ بِالتَّوْكِيلِ بِهِ أَيْضًا، فَالْحَقُّ عِنْدِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّبَرُّعِ بِالصُّلْحِ هَاهُنَا هُوَ الصُّلْحُ عَنْ آخَرَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، وَبِالتَّوْكِيلِ بِهِ هُوَ الصُّلْحُ عَنْهُ بِأَمْرِهِ، وَكِلْتَا الصُّورَتَيْنِ مَذْكُورَتَانِ فِي هَذَا الْبَابِ فَيَسْلَمُ مَا ذُكِرَ فِي عُنْوَانِ الْبَابِ عَنْ الِاسْتِدْرَاكِ. بَقِيَ شَيْءٌ، وَهُوَ أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالصُّلْحِ فِعْلُ الْمُوَكِّلِ، وَهُوَ مُتَصَرِّفٌ فِيهِ لِنَفْسِهِ فَلَا يَتِمُّ وَجْهُ التَّقْدِيمِ الَّذِي ذَكَرَهُ بِالنَّظَرِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute