(كِتَابُ الْمَعَاقِلِ)
الْمَعَاقِلُ جَمْعُ مَعْقُلَةٍ، وَهِيَ الدِّيَةُ، وَتُسَمَّى الدِّيَةُ عَقْلًا لِأَنَّهَا تَعْقِلُ الدِّمَاءَ مِنْ أَنْ تُسْفَكَ: أَيْ تُمْسِكُ. قَالَ (وَالدِّيَةُ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ، وَكُلُّ دِيَةٍ تَجِبُ بِنَفْسِ الْقَتْلِ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَالْعَاقِلَةُ الَّذِينَ يَعْقِلُونَ) يَعْنِي يُؤَدُّونَ
لِأَنَّ دِيَةَ الْمَقْتُولِ مَجْمُوعُ مَا يَجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ كُلِّهِمْ لَا مَا يَجِبُ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ. وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ الْمَحْذُورَ الْمَذْكُورَ فِي الِاعْتِرَاضِ الْمَزْبُورِ إنَّمَا هُوَ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ عَقَلُوا عَنْهُمْ هُمْ الَّذِينَ عَقَلُوا لَهُمْ وَهُمْ الْوَرَثَةُ كَمَا يُنَادِي عَلَيْهِ قَوْلُ الْمُعْتَرِضِ فَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ أَنْ يَعْقِلُوا عَنْهُمْ لَهُمْ، لَا أَنْ يَكُونَ مَنْ وَجَبَتْ الدِّيَةُ عَلَيْهِمْ عَيْنَ مَنْ وَجَبَتْ لَهُمْ حَتَّى يُقَالَ إنَّ مَنْ وَجَبَتْ الدِّيَةُ عَلَيْهِمْ غَيْرُ الْوَرَثَةِ وَمَنْ وَجَبَتْ لَهُمْ هُمْ الْوَرَثَةُ فَلَا اتِّحَادَ. عَلَى أَنَّ الْعَاقِلَةَ إذَا كَانَتْ أَعَمَّ مِنْ أَنْ تَكُونَ وَرَثَةً أَوْ غَيْرَ وَرَثَةٍ كَمَا صَرَّحَ بِهِ ذَلِكَ الْمُجِيبُ تَكُونُ الْوَرَثَةُ أَيْضًا مِمَّنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِمْ الدِّيَةُ، لِأَنَّ الدِّيَةَ إنَّمَا تَجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ كُلِّهِمْ لَا عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ فَيَلْزَمُ اتِّحَادُ مَنْ وَجَبَتْ الدِّيَةُ عَلَيْهِمْ. وَمَنْ وَجَبَتْ لَهُمْ بِالنَّظَرِ إلَى الْوَرَثَةِ لَا مَحَالَةَ فَلَا يَصِحُّ الْجَوَابُ الْمَزْبُورُ عَلَى كُلِّ حَالٍ كَمَا لَا يَخْفَى.
أَقُولُ: هَكَذَا وَقَعَ الْعُنْوَانُ فِي عَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ، لَكِنْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ الْعَوَاقِلَ بَدَلَ الْمَعَاقِلِ، لِأَنَّ الْمَعَاقِلَ جَمْعُ الْمِعْقَلَةِ وَهِيَ الدِّيَةُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ فَيَصِيرُ الْمَعْنَى كِتَابَ الدِّيَاتِ، وَهَذَا مَعَ كَوْنِهِ مُؤَدِّيًا إلَى تَكْرَارٍ لَيْسَ بِتَامٍّ فِي نَفْسِهِ، لِأَنَّ بَيَانَ أَقْسَامِ الدِّيَاتِ وَأَحْكَامِهَا قَدْ مَرَّ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ بِالْبَيَانِ هَاهُنَا بَيَانُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِمْ الدِّيَةُ بِتَفَاصِيلِ أَنْوَاعِهِمْ وَأَحْكَامِهِمْ وَهُمْ الْعَاقِلَةُ، فَالْمُنَاسِبُ فِي الْعُنْوَانِ ذِكْرُ الْعَوَاقِلِ لِأَنَّهَا جَمْعُ الْعَاقِلَةِ. قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: لَمَّا كَانَ مُوجِبُ الْقَتْلِ الْخَطَإِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ الدِّيَةَ عَلَى الْعَاقِلَةِ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ مَعْرِفَتِهَا وَمَعْرِفَةِ أَحْكَامِهَا فَذَكَرَهَا فِي هَذَا الْكِتَابِ انْتَهَى. وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ أَقُولُ: لَيْسَ ذَاكَ بِسَدِيدٍ، لِأَنَّ مَدَارَهُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ فِي هَذَا الْفَصْلِ مَعْرِفَةَ الدِّيَاتِ نَفْسِهَا وَمَعْرِفَةَ أَحْكَامِهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ مَحَلَّهَا كِتَابُ الدِّيَاتِ وَاسْتُوْفِيَتْ هُنَاكَ عَلَى التَّفْصِيلِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ هُنَا مَعْرِفَةُ الْعَوَاقِلِ وَأَحْكَامِهَا وَذِكْرُ الدِّيَةِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِطْرَادِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا ذَكَرَ الْكِتَابَ هُنَا بَلْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ الْبَابَ أَوْ الْفَصْلَ لِكَوْنِ الْمَذْكُورِ هُنَا إذْ ذَاكَ شُعْبَةً مِنْ الدِّيَاتِ، بِخِلَافِ الْعَوَاقِلِ فَإِنَّهَا أَمْرٌ مُغَايِرٌ لِلدِّيَاتِ ذَاتًا وَحُكْمًا فَكَانَتْ مَحَلًّا لِذِكْرِ الْكِتَابِ، وَكَأَنَّ ذَيْنِك الشَّارِحَيْنِ إنَّمَا اغْتَرَّا بِذِكْرِ الْمَعَاقِلِ فِي عُنْوَانِ هَذَا الْكِتَابِ بَدَلَ الْعَوَاقِلِ كَمَا فَصَّلْنَاهُ آنِفًا.
وَالْوَجْهُ السَّدِيدُ هُنَا مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ حَيْثُ قَالَ: لَمَّا بَيَّنَ أَحْكَامَ الْقَتْلِ الْخَطَإِ وَتَوَابِعَهُ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ، إذْ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَتِهَا انْتَهَى (قَوْلُهُ وَالدِّيَةُ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ وَكُلُّ دِيَةٍ وَجَبَتْ بِنَفْسِ الْقَتْلِ عَلَى الْعَاقِلَةِ) قَالَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ: قَوْلُهُ وَكُلُّ دِيَةٍ مُبْتَدَأٌ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute