(فَصْلٌ فِي الِاخْتِلَافِ)
قَالَ: (وَإِنْ كَانَ مَعَ الْمُضَارِبِ أَلْفَانِ فَقَالَ: دَفَعْتُ إِلَيَّ أَلْفًا وَرَبِحْتُ أَلْفًا وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: لَا بَلْ دَفَعْتُ إِلَيْكَ أَلْفَيْنِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُضَارِبِ) وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: أَوَّلًا الْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ، لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَدَّعِي عَلَيْهِ الشَّرِكَةَ فِي الرِّبْحِ وَهُوَ يُنْكِرُ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي الْحَقِيقَةِ فِي مِقْدَارِ الْمَقْبُوضِ وَفِي مِثْلِهِ الْقَوْلُ قَوْلُ الْقَابِضِ ضَمِينًا كَانَ أَوْ أَمِينًا لِأَنَّهُ أَعْرَفُ بِمِقْدَارِ الْمَقْبُوضِ، وَلَوِ اخْتَلَفَا مَعَ ذَلِكَ فِي مِقْدَارِ الرِّبْحِ فَالْقَوْلُ فِيهِ لِرَبِّ الْمَالِ لِأَنَّ الرِّبْحَ يُسْتَحَقُّ بِالشَّرْطِ وَهُوَ يُسْتَفَادُ مِنْ جِهَتِهِ، وَأَيُّهُمَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا ادَّعَى مِنْ فَضْلٍ قُبِلَتْ لِأَنَّ الْبَيِّنَاتِ لِلْإِثْبَاتِ (وَمَنْ كَانَ مَعَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَقَالَ: هِيَ مُضَارَبَةٌ لِفُلَانٍ بِالنِّصْفِ وَقَدْ رَبِحَ أَلْفًا وَقَالَ فُلَانٌ: هِيَ بِضَاعَةٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ) لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَدَّعِي عَلَيْهِ تَقْوِيمَ عَمَلِهِ أَوْ شَرْطًا مِنْ جِهَتِهِ أَوْ يَدَّعِي الشَّرِكَةَ وَهُوَ يُنْكِرُ، وَلَوْ قَالَ الْمُضَارِبُ: أَقْرَضْتَنِي وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: هُوَ بِضَاعَةٌ أَوْ وَدِيعَةٌ فَالْقَوْلُ لِرَبِّ الْمَالِ وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ،
الْوَكِيلُ عَلَى الْمُوَكِّلِ فِي مَرَّةٍ أُولَى أَيْضًا إِذَا كَانَ الثَّمَنُ مَدْفُوعًا إِلَيْهِ قَبْلَ الشِّرَاءِ مَعَ أَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِرُجُوعِهِ عَلَيْهِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى فِي تِلْكَ الصُّورَةِ. أَمَّا اقْتِضَاءُ الثَّانِي ذَلِكَ فَلِأَنَّ إِبْطَالَ حَقِّ الْمُوَكِّلِ يَتَحَقَّقُ بِالرُّجُوعِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى أَيْضًا لِعِلَّةٍ مَذْكُورَةٍ.
وَأَمَّا اقْتِضَاءُ الثَّالِثِ إِيَّاهُ فَلِأَنَّ انْعِزَالَ الْوَكِيلِ عَنِ الْوَكَالَةِ لَمَّا تَحَقَّقَ بِالِاشْتِرَاءِ كَانَ الرُّجُوعُ بِالْهَلَاكِ بَعْدَ الِاشْتِرَاءِ رُجُوعًا بِمَا حَدَثَ بَعْدَ زَوَالِ الْأَمَانَةِ بِالِانْعِزَالِ وَلَوْ كَانَ فِي مَرَّةٍ أُولَى.
وَأَيْضًا يُرَدُّ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي مَا أَوْرَدْنَاهُ ثَانِيًا وَثَالِثًا عَلَى جَوَابِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ عَنْ نَظَرِهِ تَأَمَّلْ تَقَفَّ. ثُمَّ أَقُولُ: "الْحَقُّ عِنْدِي فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُضَارِبِ وَالْوَكِيلِ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ أَنْ يُقَالَ: قَبْضُ الْوَكِيلِ بَعْدَ الشِّرَاءِ اسْتِيفَاءٌ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ لَهُ عَلَى الْمُوكِّلِ مِثْلُ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ لِلْبَائِعِ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْبَائِعِ مِنَ الْمُوَكِّلِ؛ حَيْثُ انْعَقَدَ بَيْنَهُمَا مُبَادَلَةٌ حُكْمِيَّةٌ كَمَا مَرَّ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ، فَإِذَا قَبَضَ الثَّمَنَ بَعْدَ الشِّرَاءِ صَارَ مُسْتَوْفِيًا لَهُ فَصَارَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ، فَإِذَا هَلَكَ بَعْدُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى الْمُوَكِّلِ وَلِهَذَا لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ أَصْلًا فِيمَا إِذَا اشْتَرَى ثُمَّ دَفَعَ الْمُوَكِّلُ إِلَيْهِ الثَّمَنَ فَهَلَكَ وَلَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ إِلَّا مَرَّةً فِيمَا إِذَا كَانَ الثَّمَنُ مَدْفُوعًا إِلَيْهِ قَبْلَ الشِّرَاءِ أَمَانَةً فِي يَدِهِ وَهَلَكَ بَعْدَ الشِّرَاءِ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ: لِأَنَّهُ ثَبَتَ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ بِنَفْسِ الشِّرَاءِ فَجُعِلَ مُسْتَوْفِيًا بِالْقَبْضِ بَعْدَهُ، أَمَّا الْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ قَبْلَ الشِّرَاءِ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى الْأَمَانَةِ بَعْدَهُ فَلَمْ يَصِرْ مُسْتَوْفِيًا، فَإِذَا هَلَكَ رَجَعَ عَلَيْهِ مَرَّةً، ثُمَّ لَا يَرْجِعُ لِوُقُوعِ الِاسْتِيفَاءِ عَلَى مَا مَرَّ فَتَأَمَّلْ.
أَيْ فِي الِاخْتِلَافِ بَيْنَ رَبِّ الْمَالِ وَالْمُضَارِبِ
أَخَّرَ هَذَا الْفَصْلَ؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي الرُّتْبَةِ بَعْدَ الِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.
(قَوْلُهُ: وَلَوْ قَالَ الْمُضَارِبُ: أَقْرَضْتَنِي وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: هُوَ بِضَاعَةٌ أَوْ وَدِيعَةٌ، فَالْقَوْلُ: رَبُّ الْمَالِ وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ). قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَسَمَّاهُ مُضَارِبًا وَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى عَدَمِهِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مُضَارِبًا فِي الْأَوَّلِ ثُمَّ أَقْرَضَهُ، اهـ. وَقَدْ سَبَقَهُ إِلَى هَذَا التَّوْجِيهِ تَاجُ الشَّرِيعَةِ.
أَقُولُ: تَسْمِيَةُ حَدِّ الْمُتَخَالِفَيْنَ مُضَارِبًا عِنْدَ تَحَقُّقِ اتِّفَاقِهِمَا عَلَى خِلَافِهِ بِمُجَرَّدِ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مُضَارِبًا فِي الْأَوَّلِ مِمَّا لَا يَقْبَلُهُ فِطْرَةٌ سَلِيمَةٌ جِدًّا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute