ثُمَّ فِي الْوَكَالَةِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ يَرْجِعُ مَرَّةً، وَفِيمَا إِذَا اشْتَرَى ثُمَّ دَفَعَ الْمُوَكِّلُ إِلَيْهِ الْمَالَ فَهَلَكَ لَا يَرْجِعُ لِأَنَّهُ ثَبَتَ لَهُ حَقُ الرُّجُوعِ بِنَفْسِ الشِّرَاءِ فَجُعِلَ مُسْتَوْفِيًا بِالْقَبْضِ بَعْدَهُ، أَمَّا الْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ قَبْلَ الشِّرَاءِ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى الْأَمَانَةِ بَعْدَهُ فَلَمْ يَصِرْ مُسْتَوْفِيًا، فَإِذَا هَلَكَ رَجَعَ عَلَيْهِ مَرَّةً ثُمَّ لَا يَرْجِعُ لِوُقُوعِ الِاسْتِيفَاءِ عَلَى مَا مَرَّ
يَصِيرُ وَكِيلًا وَلَا يَبْرَأُ عَنِ الضَّمَانِ بِمُجَرَّدِ الْوَكَالَةِ، حَتَّى لَوْ هَلَكَ الْمَغْصُوبُ وَجَبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ وَلَمْ يُعْتَبَرْ أَمِينًا. قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ هَذَا الْبَيَانِ: وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ هُنَاكَ بِاعْتِبَارِ سَبَبٍ هُوَ تَعَدٍّ قَدْ تَقَدَّمَ عَلَى قَبْضِ الْأَمَانَةِ فَيَجُوزُ أَنْ يُعْتَبَرَا جَمِيعًا، وَلَيْسَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ سَبَبٌ سِوَى الْقَبْضِ بِطَرِيقِ الْوَكَالَةِ، وَلَا نُسَلِّمُ صَلَاحِيَتَهُ لِإِثْبَاتِ حُكْمَيْنِ مُتَنَافِيَيْنِ. ثُمَّ قَالَ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ مَقْصُودَ الْمُصَنِّفِ دَفْعُ اسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِهِمَا، وَأَمَّا كَوْنُهُ مُسْتَوْفِيًا فَثَابِتٌ بِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنِ الْمُوَكِّلِ فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يُجْعَلْ مُسْتَوْفِيًا لَبَطَلَ حَقُّ الْمُوَكِّلِ إِذَا رَجَعَ عَلَيْهِ بِأَلْفٍ أُخْرَى أَصْلًا.
فَأَمَّا هَاهُنَا فَحَقُّ رَبِّ الْمَالِ لَا يَضِيعُ؛ لِأَنَّهُ يَلْحَقُ بِرَأْسِ الْمَالِ وَيَسْتَوْفِيهِ مِنَ الرِّبْحِ، وَحَمْلُهُ عَلَى الِاسْتِيفَاءِ يَضُرُّ الْمُضَارِبَ فَاخْتَرْنَا أَهْوَنَ الْأَمْرَيْنِ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْبَائِعِ فَضَرَرُهُ بِهَلَاكِ الثَّمَنِ لَا يُوجِبُ الرُّجُوعَ عَلَى الْمُشْتَرِي، انْتَهَى.
أَقُولُ: فِي الْجَوَابِ نَظَرٌ: أَمَّا أَوَّلًا: فَلِأَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ: " لِأَنَّهُ أَمْكَنَ جَعْلُهُ مُسْتَوْفِيًا؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ تُجَامِعُ الضَّمَانَ، كَالْغَاصِبِ إِذَا تَوَكَّلَ بِبَيْعِ الْمَغْضُوبِ"، صَرِيحٌ فِي إِثْبَاتِ إِمْكَانِ جَعْلِهِ مُسْتَوْفِيًا بِمُجَامَعَةِ الْوَكَالَةِ الضَّمَانُ فِي صُورَةِ تَوَكُّلِ الْغَاصِبِ بِبَيْعِ الْمَغْصُوبِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: مَقْصُودُهُ مُجَرَّدُ دَفْعِ اسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِهِمَا. وَلَئِنْ سُلِّمَ ذَلِكَ فَلَا يَنْدَفِعُ بِهِ النَّظَرُ الْمَذْكُورُ؛ لِأَنَّ حَاصِلَهُ أَنَّ السَّبَبَ فِي صُورَةِ تَوْكِيلِ الْغَاصِبِ بِبَيْعٍ الْمَغْصُوبِ مُتَعَدِّدٌ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ وَاحِدٌ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ إِمْكَانِ اجْتِمَاعِهِمَا هُنَاكَ إِمْكَانُ اجْتِمَاعِهِمَا هَاهُنَا.
وَأَمَا ثَانِيًا: فَلِأَنَّ قَوْلَهُ: وَأَمَّا كَوْنُهُ مُسْتَوْفِيًا فَثَابِتٌ بِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنِ الْمُوكِّلِ لَيْسَ بِتَامٍّ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ اللَّازِمَ لِلْمُوَكَّلِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ الْوَكِيلُ بِأَلْفٍ أُخْرَى إِنَّمَا هُوَ الضَّرَرُ الضَّرُورِيُّ الْغَيْرُ النَّاشِئِ مِنْ صُنْعِ الْوَكِيلِ؛ إِذِ الْكَلَامُ فِيمَا إِذَا هَلَكَ الثَّمَنُ الْمَدْفُوعُ إِلَى الْوَكِيلِ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ مِنْهُ وَلَا مَحْذُورَ شَرَعًا فِي مِثْلِ هَذَا الضَّرَرِ حَتَّى يَجْعَلَ الْمُوكِّلَ مُسْتَوْفِيًا لِأَجْلِ دَفْعِ ذَلِكَ عَنْهُ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ مَعَ كَوْنِ يَدِهِ يَدَ أَمَانَةٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَدِيعَةَ إِذَا هَلَكَتْ فِي يَدِ الْمُودَعِ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ مِنْهُ يَلْزَمُ الْمُودَعَ مِثْلُ هَذَا الضَّرَرِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُودِعِ الضَّمَانُ لِدَفْعِ ذَلِكَ عَنِ الْمُوَدَعِ بِلَا رَيْبٍ.
وَأَمَّا ثَالِثًا: فَلِأَنَّ قَوْلَهُ: "وَأَمَّا هَاهُنَا فَحَقُّ رَبِّ الْمَالِ لَا يَضِيعُ"، إِلَى قَوْلِهِ: "فَاخْتَرْنَا"، أَهْوَنُ الْأَمْرَيْنِ غَيْرُ مُتَمَشٍّ فِيمَا إِذَا هَلَكَ الْأَلْفُ وَالْعَبْدُ مَعًا؛ إِذْ لَا يَبْقَى حِينَئِذٍ شَيْءٌ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ حَتَّى يَلْحَقَ الْهَالِكَ مِنْهُ فَيَسْتَوْفِيهِ رَبُّ الْمَالِ مِنَ الرِّبْحِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ جَوَابَ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ دَفْعُ رَبِّ الْمَالِ الثَّمَنَ الْهَالِكَ وَرُجُوعُ الْمُضَارِبِ عَلَيْهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى جَارٍ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَيْضًا بِنَاءً عَلَى الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ. قَالَ فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ: ذَكَرَ الْإِمَامُ الْمَحْبُويِىُّ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُضَارِبِ وَالْوَكِيلِ: أَحَدُهُمَا مَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ. وَالثَّانِي: أَنَّا لَوْ لَمْ نَحْمِلْ مَا قَبَضَهُ الْوَكِيلُ عَلَى الِاسْتِيفَاءِ لَأَبْطَلْنَا حَقَّ الْمُوَكِّلِ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ إِذَا رَجَعَ عَلَيْهِ بِأَلْفٍ أُخْرَى ضَاعَ ذَلِكَ أَصْلًا، فَأَمَّا هَاهُنَا فَحَقُّ رَبِّ الْمَالِ لَا يَضِيعُ إِذَا حَمَلْنَا عَلَى الْأَمَانَةِ؛ لِأَنَّهُ يَلْحَقُ بِرَأْسِ الْمَالِ وَيَسْتَوْفِيهِ مِنَ الرِّبْحِ. وَلَوْ حُمِلَ عَلَى الِاسْتِيفَاءِ يَلْحَقُ الْمُضَارِبَ ضَرَرٌ فَوَجَبَ اخْتِيَارُ أَهْوَنِ الْأَمْرَيْنِ. وَالثَّالِثُ أَنَّ الْوَكِيلَ لَمَّا اشْتَرَى فَقَدِ انْعَزَلَ عَنِ الْوَكَالَةِ فَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُوكِّلِ بَعْدَهُ، فَأَمَّا الْمُضَارِبُ فَلَا يَنْعَزِلُ بِالشِّرَاءِ وَيَتَصَرَّفُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ لِرَبِّ الْمَالِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ، انْتَهَى.
أَقُولُ: فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ نَظَرٌ. أَمَّا فِي الْأَوَّلِ فَلِمَا عَرَفْتَهُ آنِفًا: وَأَمَّا فِي الثَّانِي وَالثَّالِثِ فَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَرْجِعَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute