(كِتَابُ الصُّلْحِ)
لُزُومَ الدَّوْرِ إِنَّمَا يَكُونُ بِاعْتِبَارِ زَعْمِ الْمُنْكِرِ دُونَ الْمُقِرِّ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ لُزُومُ الدَّوْرِ إِنَّمَا يَكُونُ بِاعْتِبَارِ زَعْمِ الْمُقِرِّ دُونَ زَعْمِ الْمُنْكِرِ؛ لِأَنَّ رُجُوعَ الْغَرِيمِ عَلَى الْمُقِرِّ بِالْآخِرَةِ إِنَّمَا هُوَ عَلَى زَعْمِ الْمُقِرِّ أَنَّ أَبَاهُ قَبَضَ مِنْهُ الْخَمْسِينَ، وَإِنَّمَا بَقِيَ عَلَيْهِ الْخَمْسُونَ الْمَقْبُوضُ.
وَأَمَّا عَلَى زَعْمِ الْمُنْكِرِ وَهُوَ أَنَّ أَبَاهُ لَمْ يَقْبِضْ مِنْهُ شَيْئًا فَلَا يَرْجِعُ الْغَرِيمَ عَلَى الْمُقِرِّ بِشَيْءٍ، بَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ يُعْطِيَ الْمُقِرَّ أَيْضًا مِثْلَ مَا أَعْطَاهُ الْمُنْكِرُ، فَلَا يَلْزَمُ الدَّوْرُ، وَتَدَبَّرْ تَقَفْ، ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِذَا كَانَ مِنْ زَعْمِ الْمُنْكِرِ أَنَّ أَبَاهُ لَمْ يَقْبِضْ شَيْئًا كَانَ مِنْ زَعْمِهِ أَنَّ أَخَاهُ فِي إِقْرَارِهِ ظَالِمٌ، وَهُوَ فِيمَا يَقْبِضُهُ أَخُوهُ مِنْهُ مَظْلُومٌ فَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْغَرِيمِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْمَظْلُومَ لَا يَظْلِمُ غَيْرَهُ، وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمَظْلُومَ لَا يَظْلِمُ غَيْرَهُ، وَلَكِنَّهُ فِي زَعْمِهِ لَيْسَ فِي الرُّجُوعِ بِظَالِمٍ بَلْ طَالِبٌ لِتَمَامِ حَقِّهِ، انْتَهَى.
أَقُولُ: فِي الْجَوَابِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْخَمْسِينَ الَّذِي قَبَضَهُ الْمُنْكِرُ مِنَ الْغَرِيمِ أَوَّلًا إِنْ كَانَ بِتَمَامِهِ حَقُّ الْمُنْكِرِ لَمْ يَكُنْ هُوَ فِي رُجُوعِهِ عَلَى الْغَرِيمِ بَعْدَ ذَلِكَ طَالِبًا لِتَمَامِ حَقِّهِ؛ إِذْ لَيْسَ حَقُّهُ فِي الْمِائَةِ بِزَائِدٍ عَلَى الْخَمْسِينَ حَتَّى يَكُونَ طَالِبًا لِتَمَامِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَقْبُوضُ أَوَّلًا بِتَمَامِهِ حَقَّهُ بَلْ كَانَ بَعْضُهُ حَقُّ أَخِيهِ لَمْ يَكُنْ هُوَ فِيمَا يَقْبِضُهُ أَخُوهُ مِنْهُ مَظْلُومًا، وَسَوْقُ الْجَوَابِ الْمَزْبُورِ عَلَى تَسْلِيمِ مَظْلُومِيَّتِهِ، كَمَا تَرَى. فَالْحَقُّ فِي الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ مَنْ زَعْمِ الْمُنْكِرِ أَنَّ أَبَاهُ لَمْ يَقْبِضْ شَيْئًا كَانَ فِي زَعْمِهِ أَنَّهُ فِيمَا يَقْبِضُهُ أَخُوهُ مِنْهُ مَظْلُومٌ، كَيْفَ وَهُمَا مُتَصَادِقَانِ عَلَى كَوْنِ مَا قَبَضَهُ مِنَ الْغَرِيمِ أَوَّلًا مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا، كَمَا تَقَرَّرَ. نَعَمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ زَعْمِ الْمُنْكِرِ ذَلِكَ أَنَّ أَخَاهُ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ؛ حَيْثُ أَبْطَلَ حَقَّهُ فِي الْمِائَةِ بِإِقْرَارِهِ بِأَنَّ أَبَاهُ قَبَضَ مِنْهَا الْخَمْسِينَ.
قَدْ مَرَّ مُنَاسَبَةُ الصُّلْحِ بِالْإِقْرَارِ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْإِقْرَارِ. وَالصُّلْحُ فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ لِلْمُصَالَحَةِ الَّتِي هِيَ الْمُسَالَمَةُ خِلَافَ الْمُخَاصَمَةِ. وَأَصْلُهُ مِنَ الصَّلَاحِ، وَهُوَ اسْتِقَامَةُ الْحَالِ فَمَعْنَاهُ دَالٌّ عَلَى حُسْنِهِ الذَّاتِيِّ. وَفِي الشَّرِيعَةِ: عِبَارَةٌ عَنْ عَقْدٍ وُضِعَ لِرَفْعِ الْمُنَازَعَةِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute