للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(كِتَابُ الْوَدِيعَةِ)

(كِتَابُ الْوَدِيعَةِ)

وَجْهُ مُنَاسِبَةِ هَذَا الْكِتَابِ بِمَا تَقَدَّمَ قَدْ مَرَّ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْإِقْرَارِ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُ الْعَارِيَةَ وَالْهِبَةَ وَالْإِجَارَةَ لِلتَّنَاسُبِ بِالتَّرَقِّي مِنَ الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى؛ لِأَنَّ الْوَدِيعَةَ أَمَانَةٌ بِلَا تَمْلِيكِ شَيْءٍ وَفِي الْعَارِيَةِ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ بِلَا عِوَضٍ، وَفِي الْهِبَةِ تَمْلِيكُ الْعَيْنِ بِلَا عِوَضٍ، وَفِي الْإِجَارَةِ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ بَعُوضٍ وَهِيَ عِقْدٌ لَازِمٌ، وَاللَّازِمُ أَقْوَى وَأَعْلَى مِمَّا لَيْسَ بِلَازِمٍ فَكَانَ فِي الْكُلِّ التَّرَقِّي مِنَ الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى كَذَا فِي الشُّرُوحِ. ثُمَّ مَحَاسِنُ الْوَدِيعَةِ ظَاهِرَةٌ؛ إِذْ فِيهِ إِعَانَةُ عِبَادِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْحِفْظِ وَوَفَاءِ الْأَمَانَةِ وَهُوَ مِنْ أَشْرَفِ الْخِصَالِ عَقْلًا وَشَرْعًا. قَالَ : «الْأَمَانَةُ تَجُرُّ الْغِنَى وَالْخِيَانَةُ تَجُرُّ الْفَقْرَ» وَفَى الْمَثَلِ: الْأَمَانَةُ أَقَامَتِ الْمَمْلُوكَ مَقَامَ الْمُلُوكِ، وَالْخِيَانَةُ أَقَامَتِ الْمُلُوكَ مَقَامَ الْمَمْلُوكِ. ثُمَّ إِنَّ الْوَدِيعَةَ لُغَةً فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مَفَعُولَةٍ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْوَدْعِ وَهُوَ التَّرْكُ. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: «لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهِمُ الْجُمُعَاتِ»، أَيْ: عَنْ تَرْكِهِمْ إِيَّاهَا. قَالَ شِمْرٌ: زَعَمَتِ النَّحْوِيَّةُ أَنَّ الْعَرَبَ أَمَاتُوا مَصْدَرَ يَدَعُ، وَالنَّبِيُّ أَفْصَحُ الْعَرَبِ، وَقَدْ رُوِيَتْ عَنْهُ هَذِهِ الْكَلِمَةُ، وَسُمِّيَتِ الْوَدِيعَةُ بِهَا؛ لِأَنَّهَا شَيْءٌ يُتْرَكُ عِنْدَ الْأَمِينِ، كَذَا فِي الْمُغْرِبِ وَبَعْضِ الشُّرُوحِ. قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَتَفْسِيرُهَا لُغَةً التَّرْكُ، وَسُمِّيَتِ الْوَدِيعَةُ بِهَا؛ لِأَنَّهَا تُتْرَكُ بِيَدِ أَمِينٍ، انْتَهَى.

أَقُولُ: فِيهِ سَمَاجَةٌ ظَاهِرَةٌ؛ إِذْ لَيْسَتِ الْوَدِيعَةُ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى التَّرْكِ، وَإِنَّمَا الَّذِي بِمَعْنَى التَّرْكِ هُوَ الْوَدْعُ فَلَا يَصِحُّ قَوْلُهُ: وَتَفْسِيرُهَا لُغَةً التَّرْكُ إِلَّا بِتَأْوِيلٍ بَعِيدٍ لَا يُسَاعِدُهُ لَفْظُهُ، وَهُوَ أَنْ يُرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهَا مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْوَدْعِ الَّذِي هُوَ التَّرْكُ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الشُّرَّاحِ: الْوَدِيعَةُ فِي الشَّرِيعَةِ عِبَارَةٌ عَنِ التَّسْلِيطِ عَلَى حِفْظِ الْمَالِ.

أَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْوَدِيعَةَ فِي الشَّرِيعَةِ أَيْضًا هِيَ الْمَالُ الْمُودَعُ الَّذِي يُتْرَكُ عِنْدَ الْأَمِينِ لَا نَفْسَ التَّسْلِيطِ عَلَى حِفْظِ الْمَالِ، وَأَنَّ التَّسْلِيطَ عَلَى حِفْظِ الْمَالِ هُوَ الْإِيدَاعُ، وَعَنْ هَذَا قَالَ صَاحِبُ الْكَافِي وَالْكِفَايَةِ: الْإِيدَاعُ لُغَةً تَسْلِيطُ الْغَيْرِ عَلَى حِفْظِ أَيِّ شَيْءٍ كَانَ مَالًا أَوْ غَيْرَ مَالٍ. يُقَالُ

<<  <  ج: ص:  >  >>