(فَصْلٌ فِي الْبَيْعِ)
قَالَ (وَالْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ لَا يَجُوزُ لَهُ
إذْ لَا شَكَّ أَنَّ مُجَرَّدَ قَوْلِهِ بِعْنِي نَفْسِي لَا يُنَافِي الْمُعَاوَضَةَ، بَلْ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ بَيْعُ نَفْسِهِ مِنْ نَفْسِهِ وَهُوَ الْإِعْتَاقُ عَلَى مَالٍ وَبَيْعُ نَفْسِهِ لِغَيْرِهِ وَهُوَ الْمُعَاوَضَةُ، بَلْ الثَّانِي هُوَ الظَّاهِرُ نَظَرًا إلَى الْحَقِيقَةِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: لَا يُقَالُ فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ الْمُطْلَقَ يَحْتَمِلُ الْوَجْهَيْنِ صَحِيحًا؛ لِأَنَّا نَقُولُ: الِاحْتِمَالُ إنَّمَا هُوَ مِنْ حَيْثُ إطْلَاقُ اللَّفْظِ، وَذَلِكَ لَا يَحْتَمِلُ الْإِنْكَارَ وَالتَّرْجِيحَ مِنْ حَيْثُ الْإِضَافَةُ إلَى نَفْسِهِ وَهِيَ خَارِجَةٌ عَنْ مَفْهُومِ اللَّفْظِ انْتَهَى.
أَقُولُ: هَذَا أَيْضًا لَيْسَ بِصَحِيحٍ إذْ لَا إضَافَةَ إلَى نَفْسِهِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ؛ لِأَنَّ وَضْعَهُ فِيمَا أُطْلِقَ وَلَمْ يُضِفْ إلَى أَحَدٍ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ التَّرْجِيحُ فِيهِ مِنْ حَيْثُ الْإِضَافَةُ إلَى نَفْسِهِ. وَأَيْضًا إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ وَهِيَ خَارِجَةٌ عَنْ مَفْهُومِ اللَّفْظِ أَنَّهَا خَارِجَةٌ عَنْ مَفْهُومِ مَجْمُوعِ اللَّفْظِ الصَّادِرِ عَنْ الْعَبْدِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ بِعْنِي نَفْسِي فَأَيْنَ تُوجَدُ الْإِضَافَةُ إلَى نَفْسِهِ حَتَّى تَكُونَ قَرِينَةً لِلْمَجَازِ؟ وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهَا خَارِجَةٌ عَنْ مَفْهُومِ بَعْضِ اللَّفْظِ الصَّادِرِ عَنْهُ فِيهَا، وَهُوَ قَوْلُهُ بِعْنِي فَقَطْ فَلَا يُجْدِي شَيْئًا؛ لِأَنَّ وَضْعَ الْمَسْأَلَةِ فِي الْإِطْلَاقِ مَجْمُوعُ مَا صَدَرَ عَنْ الْعَبْدِ، إذْ بِهِ تَمْتَازُ هَذِهِ الصُّورَةُ عَنْ صُورَتَيْ الْإِضَافَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ خُرُوجِ قَيْدِ الْإِضَافَةِ عَنْ مَجْمُوعِ ذَلِكَ حَتَّى يُوجَدَ الْإِطْلَاقُ الْمَفْرُوضُ وَيَصِحُّ الِاحْتِمَالُ الْمَذْكُورُ. وَبِالْجُمْلَةِ لَا حَاصِلَ لِهَذَا الْجَوَابِ وَلَا مُطَابَقَةَ فِيهِ لِمَا فِي الْكِتَابِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذَوِي الْأَلْبَابِ.
وَالْجَوَابُ الصَّحِيحُ عَنْ أَصْلِ الْمُعَاوَضَةِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَالْكِفَايَةِ حَيْثُ قَالَا: فَإِنْ قِيلَ يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ الشِّرَاءُ لِلْمُوَكِّلِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ لِحَقِيقَتِهِ فِي الْأَصْلِ، فَلَمَّا تَرَدَّدَ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْحَقِيقَةِ كَمَا هُوَ الْأَصْلُ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَوْ وَقَعَ الشِّرَاءُ لِمُوَكِّلِهِ كَانَ الشِّرَاءُ مَعْمُولًا عَلَى حَقِيقَتِهِ وَهِيَ الْمُعَاوَضَةُ، وَلَوْ وَقَعَ لِلْعَبْدِ كَانَ مَعْمُولًا بِمَجَازِهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَوْضُوعٍ لِلْإِعْتَاقِ بَلْ هُوَ مَوْضُوعٌ لِلْمُعَاوَضَةِ. قُلْنَا: عَارَضَتْ جِهَةُ أَصَالَةِ الْحَقِيقَةِ جِهَةَ أَصَالَةٍ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي تَصَرُّفِ الْإِنْسَانِ أَنْ يَقَعَ لِنَفْسِهِ ثُمَّ رَجَّحْنَا هَذِهِ الْجِهَةَ بِحَسَبِ مَقْصُودِ الْبَائِعِ ظَاهِرًا وَهُوَ أَنْ لَا يَفُوتَ وَلَاءُ الْعَبْدِ مِنْهُ، فَإِنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ وُقُوعِ الشِّرَاءِ لِلْمُوَكِّلِ يَفُوتُ هَذَا الْغَرَضُ، أَوْ نَقُولُ: لَمَّا وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ الْأَصْلَيْنِ رَجَّحْنَا جَانِبَ الْإِعْتَاقِ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ، وَالْمُعَاوَضَةُ مُبَاحَةٌ مَحْضَةٌ انْتَهَى.
لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِ التَّوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ شَرَعَ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ التَّوْكِيلِ بِالْبَيْعِ، وَمَا ذَكَرَ لِتَقْدِيمِ فَصْلِ الشِّرَاءِ ثَمَّةَ فَهُوَ وَجْهُ تَأْخِيرِ فَصْلِ الْبَيْعِ هُنَا، كَذَا فِي الشُّرُوحِ. أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُول: قَدْ ذُكِرَ فِي هَذَا الْفَصْلِ كَثِيرٌ مِنْ أَحْكَامِ التَّوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ، وَلِمَ لَمْ يُذْكَرْ ذَلِكَ فِي الْفَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ: مِنْهَا قَوْلُهُ وَالْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْقِدَ مَعَ أَبِيهِ وَجَدِّهِ إلَخْ، فَإِنَّ الْحُكْمَ فِيهِ حُكْمٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ التَّوْكِيلِ بِالْبَيْعِ وَالتَّوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ وَالتَّوْكِيلُ بِالشِّرَاءِ يَجُوزُ عَقْدُهُ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ وَزِيَادَةٍ يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهَا، وَلَا يَجُوزُ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ فَإِنَّ الْحُكْمَ فِيهِ حُكْمُ التَّوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ وَإِنْ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ عَبْدٍ فَاشْتَرَى نِصْفَهُ فَالشِّرَاءُ مَوْقُوفٌ إلَخْ، فَإِنَّ الْحُكْمَ فِيهِ أَيْضًا حُكْمُ التَّوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ؛ فَقَوْلُهُمْ لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِ التَّوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ شَرَعَ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ التَّوْكِيلِ بِالْبَيْعِ مَحَلُّ مُنَاقَشَةٍ. وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ بِنَوْعِ عِنَايَةٍ فَتَأَمَّلْ.
(قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَالْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ لَا يَجُوزُ لَهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute