(بَابُ وَصِيَّةِ الذِّمِّيِّ)
قَالَ (وَإِذَا صَنَعَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ بِيعَةً أَوْ كَنِيسَةً فِي صِحَّتِهِ ثُمَّ مَاتَ فَهُوَ مِيرَاثٌ) لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْوَقْفِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْوَقْفُ عِنْدَهُ يُورَثُ وَلَا يَلْزَمُ فَكَذَا هَذَا. وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّ هَذِهِ مَعْصِيَةٌ فَلَا تَصِحُّ عِنْدَهُمَا. قَالَ (وَلَوْ أَوْصَى بِذَلِكَ لِقَوْمٍ مُسَمِّينَ فَهُوَ الثُّلُثُ) مَعْنَاهُ إذَا أَوْصَى أَنْ تُبْنَى دَارُهُ بِيعَةً أَوْ كَنِيسَةً فَهُوَ جَائِزٌ مِنْ الثُّلُثِ
وَالْغَلَّةِ بِالْمُعَامَلَةِ وَالْإِجَارَةِ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ بِطَرِيقِ دَلَالَةِ النَّصِّ عَلَيْهِ، يُرْشِدُ إلَيْهِ قَطْعًا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ ﵀ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى، وَفِي قَوْلِهِ فَاقْتَضَى ذَلِكَ جَوَازَهُ فِي الْوَصِيَّةِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى لِأَنَّ الْأَوْلَوِيَّةَ إنَّمَا تُتَصَوَّرُ فِي الدَّلَالَةِ دُونَ الْقِيَاسِ، وَكَوْنُ الشَّيْءِ ثَابِتًا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ إنَّمَا يُنَافِي الْقِيَاسَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الْقِيَاسِ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَقِيسُ عَلَيْهِ مَعْدُولًا عَنْ سُنَنِ الْقِيَاسِ دُونَ الْإِلْحَاقِ بِهِ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ، وَقَدْ مَرَّ مِرَارًا نَظَائِرَ هَذَا فِي الْكِتَابِ وَشُرُوحِهِ فَكَيْفَ خَفِيَ عَلَى ذَلِكَ الْبَعْضِ. ثُمَّ أَقُولُ: بَقِيَ لَنَا شَيْءٌ فِيمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ ﵀، وَهُوَ أَنَّ عَقْدَ الْمُعَامَلَةِ بَاطِلٌ غَيْرُ مَشْرُوعٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا تَقَرَّرَ فِي مَوْضِعِهِ، فَقَوْلُهُ هَاهُنَا جَاءَ الشَّرْعُ بِوُرُودِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا كَالْمُعَامَلَةِ لَا يَتَمَشَّى عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِنَّمَا يَتَمَشَّى عَلَى قَوْلِ صَاحِبَيْهِ، فَإِنَّ عَقْدَ الْمُعَامَلَةِ مَشْرُوعٌ عِنْدَهُمَا، وَالْمَسْأَلَةُ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا مِمَّا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ فَكَيْفَ يُبْنَى دَلِيلُهَا عَلَى مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ فَتَأَمَّلْ.
ذَكَرَ وَصِيَّةَ الذِّمِّيِّ بَعْدَ وَصِيَّةِ الْمُسْلِمِ لِأَنَّ الْكُفَّارَ مُلْحَقُونَ بِالْمُسْلِمِينَ فِي أَحْكَامِ الْمُعَامَلَاتِ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ، فَذَكَرَ التَّابِعَ بَعْدَ الْمَتْبُوعِ كَذَا قَالُوا. أَقُولُ: أَكْثَرُ مَا ذُكِرَ فِي هَذَا الْبَابِ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الْمُعَامَلَاتِ كَمَا تَرَى، فَتَغْلِيبُ الْأَقَلِّ عَلَى الْأَكْثَرِ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ: لَمَّا كَانَ لِبَعْضِ وَصَايَا الْكُفَّارِ أَحْكَامٌ خَاصَّةٌ ذَكَرَ وَصِيَّتَهُمْ فِي بَابٍ عَلَى حِدَةٍ وَأَخَّرَهُ لِخَسَاسَتِهِمْ.
(قَوْلُهُ وَإِذَا صَنَعَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ بِيعَةً أَوْ كَنِيسَةً فِي صِحَّتِهِ ثُمَّ مَاتَ فَهُوَ مِيرَاثٌ، لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْوَقْفِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ﵀، وَالْوَقْفُ عِنْدَهُ يُورَثُ وَلَا يَلْزَمُ فَكَذَا هَذَا. وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّ هَذِهِ مَعْصِيَةٌ فَلَا تَصِحُّ عِنْدَهُمَا) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَحَلِّ: إذَا صَنَعَ يَهُودِيٌّ بِيعَةً أَوْ نَصْرَانِيٌّ كَنِيسَةً فِي حِصَّتِهِ ثُمَّ مَاتَ فَهُوَ مِيرَاثٌ بِالِاتِّفَاقِ فِيمَا بَيْنَ أَصْحَابِنَا عَلَى اخْتِلَافِ التَّخْرِيجِ، أَمَّا عِنْدَهُ فَلِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْوَقْفِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ﵀ إذَا كَانَ لِمُسْلِمٍ، فَإِنَّ وَقْفَ الْمُسْلِمِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ مَوْرُوثٌ بَعْدَ مَوْتِهِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ لَازِمٍ فَهَذَا أَوْلَى، وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ مَعْصِيَةٌ فَلَا تَصِحُّ، إلَى هُنَا لَفْظُهُ. أَقُولُ: فِيهِ خَلَلٌ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ أَنَّهُ صَرَفَ الْبِيعَةَ إلَى الْيَهُودِيِّ وَالْكَنِيسَةَ إلَى النَّصْرَانِيِّ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا ذَكَرَهُ نَفْسُهُ وَسَائِرُ الشُّرَّاحِ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ مِنْ أَنَّ الْكَنِيسَةَ اسْمٌ لِمَعْبَدِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَكَذَلِكَ الْبِيعَةُ اسْمٌ لِمَعْبَدِهِمْ مُطْلَقًا فِي الْأَصْلِ، ثُمَّ غَلَبَ اسْتِعْمَالُ الْكَنِيسَةِ لِمَعْبَدِ الْيَهُودِ وَالْبِيعَةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute