وَرُبَّمَا يُقَالُ: الْإِجَارَةُ قَدْ تَكُونُ عَقْدًا عَلَى الْعَمَلِ كَاسْتِئْجَارِ الْقَصَّارِ وَالْخَيَّاطِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ مَعْلُومًا وَذَلِكَ فِي الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ، وَقَدْ تَكُونُ عَقْدًا عَلَى الْمَنْفَعَةِ كَمَا فِي أَجِيرِ الْوَحْدِ، وَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ الْوَقْتِ. قَالَ: (وَتَارَةً تَصِيرُ الْمَنْفَعَةُ مَعْلُومَةً بِالتَّعْيِينِ وَالْإِشَارَةِ كَمَنْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا، لِيَنْقُلَ لَهُ هَذَا الطَّعَامَ إلَى مَوْضِعٍ مَعْلُومٍ)؛ لِأَنَّهُ إذَا أَرَاهُ مَا يَنْقُلُهُ وَالْمَوْضِعَ الَّذِي يَحْمِلُ إلَيْهِ كَانَتْ الْمَنْفَعَةُ مَعْلُومَةً فَيَصِحُّ الْعَقْدُ.
بَابُ الْأَجْرِ مَتَى يُسْتَحَقُّ
قَدْ تَكُونُ عَقْدًا عَلَى الْعَمَلِ، إلَى قَوْلِهِ: وَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ الْوَقْتِ) أَقُولُ: فِي هَذَا التَّقْسِيمِ نَوْعُ إشْكَالٍ، إذْ قَدْ مَرَّ فِي صَدْرِ الْكِتَابِ أَنَّ الْإِجَارَةَ عَقْدٌ عَلَى الْمَنَافِعِ بِعِوَضٍ فَكَيْفَ يَصِحُّ تَقْسِيمُهَا إلَى الْعَقْدِ عَلَى الْعَمَلِ وَإِلَى الْعَقْدِ عَلَى الْمَنْفَعَةِ، وَهَذَا يَلْزَمُ مِنْهُ تَقْسِيمُ الشَّيْءِ إلَى نَفْسِهِ وَإِلَى غَيْرِهِ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ تُحْمَلَ عِبَارَةُ التَّقْسِيمِ عَلَى الْمُسَامَحَةِ فَيَكُونُ الْمُرَادُ الْإِجَارَةَ قَدْ تَكُونُ عَقْدًا عَلَى مَنْفَعَةِ الْعَمَلِ، وَقَدْ تَكُونُ عَقْدًا عَلَى مَنْفَعَةِ الْأَعْيَانِ لَكِنَّهُ غَيْرُ مُنْفَهِمٍ مِنْ نَفْسِ اللَّفْظِ كَمَا لَا يَخْفَى. ثُمَّ أَقُولُ: كَانَ حَقًّا عَلَى الْمُصَنِّفِ أَنْ يُؤَخِّرَ بَيَانَ هَذَا التَّقْسِيمِ الَّذِي ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ كَصَاحِبِ الْأَسْرَارِ وَغَيْرِهِ عَنْ ذِكْرِ الْقِسْمِ الثَّالِثِ مِنْ التَّقْسِيمِ الْمَذْكُورِ فِي نَفْسِ الْكِتَابِ، وَقَدْ وَسَّطَهُ فِي الْبَيَانِ كَمَا تَرَى، وَكَأَنَّ صَاحِبَ الْكَافِي تَنَبَّهَ لِسَمَاجَةِ هَذَا التَّحْرِيرِ حَيْثُ أَخَّرَ بَيَانَ هَذَا التَّقْسِيمِ الْمَثْنَى عَنْ تَمَامِ ذِكْرِ أَقْسَامِ ذَلِكَ التَّقْسِيمِ الْمُثَلَّثِ.
وَاعْتَرَضَ صَاحِبُ الْغَايَةِ عَلَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ كَمَا فِي أَجِيرِ الْوَحْدِ حَيْثُ قَالَ: وَلَنَا فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ إجَارَةَ أَجِيرِ الْوَحْدِ أَيْضًا عَقْدٌ عَلَى الْعَمَلِ، وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ فِيهَا بَيَانُ الْمُدَّةِ وَلِهَذَا جَعَلَهُ صَاحِبُ التُّحْفَةِ أَحَدَ نَوْعَيْ الِاسْتِئْجَارِ عَلَى الْأَعْمَالِ كَمَا ذَكَرْنَا آنِفًا، فَلَوْ قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ وَقَدْ تَكُونُ عَقْدًا عَلَى الْمَنْفَعَةِ كَاسْتِئْجَارِ الدُّورِ، وَالْحَوَانِيتِ وَنَحْوِهَا كَانَ أَوْلَى. اهـ كَلَامُهُ.
أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ إجَارَةَ أَجِيرِ الْوَحْدِ لَيْسَتْ بِعَقْدٍ عَلَى الْعَمَلِ وَلِهَذَا يَسْتَحِقُّ أَجِيرُ الْوَحْدِ الْأُجْرَةَ بِتَسْلِيمِ نَفْسِهِ فِي الْمُدَّةِ وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ قَاطِبَةً كَمَا سَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ، وَلَوْ كَانَتْ عَقْدًا عَلَى الْعَمَلِ لَمَا اسْتَحَقَّهَا بِدُونِ الْعَمَلِ بَلْ إنَّمَا هِيَ عَقْدٌ عَلَى مَنَافِعِ نَفْسِهِ مُطْلَقًا وَلِهَذَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إيجَابِ مَنَافِعِهِ لِغَيْرِهِ، وَتَعْيِينُ الْعَمَلِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ كَرَعْيِ الْغَنَمِ وَنَحْوِهِ؛ لِصَرْفِ لْمَنْفَعَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ إلَى تِلْكَ الْجِهَةِ، وَسَيَظْهَرُ هَذَا كُلُّهُ فِي بَابِ ضَمَانِ الْأَجِيرِ. وَجَعَلَ صَاحِبُ التُّحْفَةِ ذَلِكَ أَحَدَ نَوْعَيْ الِاسْتِئْجَارِ عَلَى الْأَعْمَالِ لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْمُصَنِّفِ. وَلَوْ مَثَّلَ الْمُصَنِّفُ مَا يَكُونُ عَقْدًا عَلَى الْمَنْفَعَةِ بِاسْتِئْجَارِ الدُّورِ وَنَحْوِهَا دُونَ أَجِيرِ الْوَحْدِ لَفَاتَ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ إجَارَةَ أَجِيرِ الْوَحْدِ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ وَهُوَ مَقْصُودٌ لِخَفَاءِ ذَلِكَ عَلَى الْبَعْضِ فَتَنَبَّهْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(بَابُ الْأَجْرِ مَتَى يُسْتَحَقُّ). قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ صِحَّةَ الْإِجَارَةِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى أَنْ تَكُونَ الْأُجْرَةُ مَعْلُومَةً احْتَاجَ إلَى بَيَانِ وَقْتِ وُجُوبِهَا فَذَكَرَهُ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ الْمَسَائِلِ فِي هَذَا الْبَابِ. اهـ كَلَامُهُ. وَاقْتَفَى أَثَرَهُ فِي هَذَا التَّوْجِيهِ جَمَاعَةٌ مِنْ الشُّرَّاحِ. أَقُولُ: لَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ رَكَاكَةُ هَذَا التَّوْجِيهِ وَسَخَافَتُهُ، إذْ لَا يَسْتَدْعِي ذِكْرُ مُجَرَّدِ أَنَّ صِحَّةَ الْإِجَارَةِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى كَوْنِ الْأُجْرَةِ مَعْلُومَةً بَيَانَ وُجُوبِهَا فَضْلًا عَنْ الِاحْتِيَاجِ إلَى بَيَانِ وَقْتِ وُجُوبِهَا فِي بَابٍ عَلَى حِدَةٍ، أَلَا يُرَى أَنَّ مَعْلُومِيَّةَ الْبَدَلَيْنِ شَرْطٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْعُقُودِ؛ وَلَمْ يَحْتَجْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا إلَى بَيَانِ وَقْتِ الْوُجُوبِ فِي بَابٍ عَلَى حِدَةٍ. وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: لَمَّا كَانَتْ الْإِجَارَةُ تُخَالِفُ غَيْرَهَا فِي تَخَلُّفِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute