وَالْمَالُ لَازِمٌ لِلْمُوَكِّلِ) وَتَأْوِيلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِذَا كَانَ الصُّلْحُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ أَوْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ بَعْضِ مَا يَدَّعِيهِ مِنَ الدَّيْنِ لِأَنَّهُ إِسْقَاطٌ مَحْضٌ فَكَانَ الْوَكِيلُ فِيهِ سَفِيرًا وَمُعَبِّرًا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ كَالْوَكِيلِ بِالنِّكَاحِ إِلَّا أَنْ يَضْمَنَهُ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ هُوَ مُؤَاخَذٌ بِعَقْدِ الضَّمَانِ لَا بِعَقْدِ الصُّلْحِ، أَمَّا إِذَا كَانَ الصُّلْحُ عَنْ مَالٍ بِمَالٍ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ، فَتَرْجِعُ الْحُقُوقُ إِلَى الْوَكِيلِ فَيَكُونُ الْمُطَالِبُ بِالْمَالِ هُوَ الْوَكِيلُ دُونَ الْمُوَكِّلِ.
إِلَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ فِي الْعُنْوَانِ: وَالتَّوْكِيلِ بِهِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ التَّوْكِيلَ الْمَذْكُورَ فِي الْعُنْوَانِ مُصْدَرٌ مِنَ الْمَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ، فَيَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى التَّوَكُّلِ، وَهُوَ تَصَرُّفٌ لِلْغَيْرِ. فَإِنْ قُلْتَ: فَلِمَ لَمْ يَقُلْ وَالتَّوَكُّلُ بِهِ بَدَلَ قَوْلُهُ: وَالتَّوْكِيلُ بِهِ، حَتَّى لَا يَحْتَاجَ إِلَى الْبَيَانِ بِأَنَّهُ مَصْدَرٌ مِنَ الْمَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ. قُلْتُ: فَائِدَةُ التَّعْبِيرِ عَنِ التَّوَكُّلِ بِالتَّوْكِيلِ هِيَ الْإِيمَاءُ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ التَّوَكُّلَ الْحَاصِلَ بِالتَّوْكِيلِ وَهُوَ التَّوَكُّلُ بِأَمْرِ الْغَيْرِ الَّذِي هُوَ الْمُوَكِّلُ، لَا الْمُبَاشَرَةُ بِنَفْسِهِ بِدُونِ أَمْرِ الْغَيْرِ، وَهُوَ التَّبَرُّعُ بِالصُّلْحِ، فَيَنْدَفِعُ بِهِ تَوَهَّمُ الِاسْتِدْرَاكِ، تَأْمَّلْ؛ فَإِنَّهُ مَعْنًى لَطِيفٌ.
(قَوْلُهُ: وَالْمَالُ لَازِمٌ لِلْمُوَكِّلِ). قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ، وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ فِي شَرْحِ الْأَقْطَعِ: وَالْمَالُ لَازِمٌ عَلَى الْمُوَكِّلِ، انْتَهَى. وَقَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ: وَاللَّامُ فِي لِلْمُوَكِّلِ بِمَعْنَى عَلَى، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا﴾، أَيْ: فَعَلَيْهَا. وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ؛ حَيْثُ قَالَ: وَالْمَالُ لَازِمٌ لِلْمُوَكِّلِ، أَيْ: عَلَى الْمُوَكِّلِ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا﴾، أَيْ: فَعَلَيْهَا، انْتَهَى. ٥٠ أَقُولُ: لَا وَجْهَ لِحَمْلِ اللَّامِ فِي قَوْلِهِ: وَالْمَالُ لَازِمٌ لِلْمُوَكِّلِ عَلَى مَعْنَى "عَلَى"؛ لِأَنَّ لِلْمُوَكِّلِ مُتَعَلِّقٌ بِلَازِمٍ، وَكَلِمَةُ اللُّزُومِ تَتَعَدَّى بِنَفْسِهَا وَبِالْبَاءِ، يُقَالُ: لَزِمَهُ وَلَزِمَ بِهِ، وَلَا تَتَعَدَّى بِعَلَى، فَلَوْ جَعَلَ اللَّامَ هُنَا بِمَعْنَى عَلَى لَزِمَ تَعْدِيَةُ اللُّزُومِ بِعَلَى، وَلَمْ تُسْمَعْ قَطُّ، فَالصَّحِيحُ أَنْ تَبْقَى اللَّامُ فِي عِبَارَةِ الْكِتَابِ عَلَى حَالِهَا، وَيَكُونُ إِقْحَامُهَا لِتَقْوِيَةِ الْعَمَلِ، فَالْمَعْنَى وَالْمَالُ يَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ، وَإِدْخَالُ اللَّامِ عَلَى مَعْمُولِ اسْمِ الْفَاعِلِ مِنَ الْأَفْعَالِ الْمُتَعَدِّيَةِ بِأَنْفُسِهَا لِتَقْوِيَةِ الْعَمَلِ شَائِعٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، بِخِلَافِ قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا﴾؛ لِأَنَّ اللَّامَ فِي " فَلَهَا " هُنَاكَ مُتَعَلِّقٌ بِمُقَدَّرٍ، كَمَا لَا يَخْفَى، فَيَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرَ مَا يَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةً عَلَى صِلَةٍ لَهُ، فَلَا ضَيْرَ فِي أَنْ يَحْمِلَ اللَّامِ هُنَاكَ عَلَى مَعْنَى عَلَى، تَأَمَّلْ تَقَفَّ.
(قَوْلُهُ: وَتَأْوِيلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِذَا كَانَ الصُّلْحُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ أَوْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ بَعْضِ مَا يَدَّعِيهِ مِنَ الدَّيْنِ … إِلَخْ). قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنَ التَّأْوِيلِ لَا يَكْفِي لِتَأْوِيلِ الْمَسْأَلَةِ، فَإِنَّ فِيهِ قَيْدًا آخَرَ وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ الصُّلْحُ عَلَى الْإِنْكَارِ فَلَا يَجِبُ بَدَلَ الصُّلْحِ عَلَى الْوَكِيلِ مِنْ شَيْءٍ، وَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ فِي الْمُعَاوَضَاتِ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ فِي بَابِ الصُّلْحِ فِي الْعَقَارِ: وَلَوِ ادَّعَى رَجُلٌ فِي دَارِ رَجُلٍ حَقًّا فَصَالَحَهُ عَنْهُ آخَرُ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، إِلَى أَنْ قَالَ: وَلَا يَجِبُ الْمَالُ عَلَى الْمُصَالِحِ إِلَّا أَنْ يُضَمِّنَهُ الَّذِي صَالَحَهُ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ عَلَى الْإِنْكَارِ مُعَاوَضَةٌ بِإِسْقَاطِ الْحَقِّ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الطَّلَاقِ بِجُعْلٍ وَالْعَفْوِ عَنِ الْقَصَّاصِ بِمَالٍ، وَذَلِكَ جَائِزٌ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ، كَمَا يَجُوزُ مَعَ الْخَصْمِ، انْتَهَى. وَاقْتَفَى أَثَرَهُ كَثِيرٌ مِنَ الشُّرَّاحِ فِي أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ لَا يَكْفِي لِتَأْوِيلِ الْمَسْأَلَةِ، بَلْ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ قَيْدٍ آخَرَ وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ الصُّلْحُ فِي الْمُعَاوَضَاتِ عَلَى الْإِنْكَارِ.
أَقُولُ: يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: يُسْتَغْنَى عَنْهُ بِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، فَإِنَّ قَوْلَهُ:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute