قَالَ (فَإِنْ كَانَا وَكِيلَيْنِ بِالْخُصُومَةِ لَا يَقْبِضَانِ إلَّا مَعًا) لِأَنَّهُ رَضِيَ بِأَمَانَتِهِمَا لَا بِأَمَانَةِ أَحَدِهِمَا، وَاجْتِمَاعُهُمَا مُمْكِنٌ بِخِلَافِ الْخُصُومَةِ عَلَى مَا مَرَّ. قَالَ (وَالْوَكِيلُ بِقَبْضِ الدَّيْنِ يَكُونُ وَكِيلًا بِالْخُصُومَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ﵀) حَتَّى لَوْ أُقِيمَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْمُوَكِّلِ أَوْ إبْرَائِهِ تُقْبَلُ عِنْدَهُ، وَقَالَا: لَا يَكُونُ خَصْمًا وَهُوَ
فِي الْفُرُوعِ الْجُزْئِيَّةِ. لَا يُقَالُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَدَارُ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَمَدَارُ فَتْوَاهُمْ عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، فَإِنَّ الْمَجَازَ الْمُتَعَارَفَ أَوْلَى مِنْ الْحَقِيقَةِ الْمُسْتَعْمَلَةِ عِنْدَهُمَا.
لِأَنَّا نَقُولُ: الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ وَمِنْ سَائِرِ الْكُتُبِ أَنْ لَا يَقَعَ خِلَافٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ أَئِمَّتِنَا الثَّلَاثَةِ؛ أَلَا يَرَى إلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ فِي الْأَصْلِ: الْوَكِيلُ بِالتَّقَاضِي يَمْلِكُ الْقَبْضَ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ، وَلَوْ كَانَ لِأَصْلِنَا الْمَذْكُورِ تَأْثِيرٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَمَا وَقَعَ الِاتِّفَاقُ بَيْنَهُمْ فِيهَا، عَلَى أَنَّ صَاحِبَ التَّلْوِيحِ قَالَ: وَفِي كَلَامِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ وَغَيْرِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَجَازَ الْمُتَعَارَفَ إنَّمَا يَتَرَجَّحُ عِنْدَهُمَا إذَا تَنَاوَلَ الْحَقِيقَةَ بِعُمُومِهِ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ أَكْلِ الْحِنْطَةِ اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَلَا تَمْشِيَةَ لِأَصْلِهِمَا الْمَذْكُورِ هَاهُنَا رَأْسًا، فَلَا مَجَالَ لَأَنْ يُجْعَلَ مَدَارُ الصِّحَّةِ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ وَفَتْوَى الْمَشَايِخِ فَالتَّحْقِيقُ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالتَّقَاضِي كَانَ مُسْتَعْمَلًا عَلَى حَقِيقَتِهِ فِي الْأَوَائِلِ، وَلَمْ يَجْرِ الْعُرْفُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ، فَكَانَ الْوَكِيلُ بِالتَّقَاضِي يَمْلِكُ الْقَبْضَ بِالِاتِّفَاقِ عَلَى مَا وَقَعَ فِي أَصْلِ الرِّوَايَةِ. وَأَمَّا الْيَوْمَ فَلَمَّا ظَهَرَتْ الْخِيَانَةُ فِي الْوُكَلَاءِ وَجَرَى الْعُرْفُ عَلَى أَنْ جَعَلُوا التَّقَاضِيَ فِي التَّوْكِيلِ بِالتَّقَاضِي مُسْتَعْمَلًا فِي الْمُطَالَبَةِ مَجَازًا وَصَارَتْ الْحَقِيقَةُ مَهْجُورَةً أَفْتَى مَشَايِخُنَا الْمُتَأَخِّرُونَ بِأَنَّ الْوَكِيلَ بِالتَّقَاضِي لَا يَمْلِكُ الْقَبْضَ بِالِاتِّفَاقِ بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ الْمُقَرَّرِ الْمُتَّفِقِ عَلَيْهِ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِينَ مِنْ أَنَّ الْمَجَازَ الْمُتَعَارَفَ أَوْلَى مِنْ الْحَقِيقَةِ الْمَهْجُورَةِ فَلَمْ يَبْقَ فِي الْمَقَامِ غُبَارٌ أَصْلًا.
(قَالَ) أَيْ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (فَإِنْ كَانَا) أَيْ الرَّجُلَانِ (وَكِيلَيْنِ بِالْخُصُومَةِ لَا يَقْبِضَانِ إلَّا مَعًا) أَيْ لَا يَقْبِضَانِ حَقَّ الْمُوَكِّلِ إلَّا مُجْتَمِعَيْنِ (لِأَنَّهُ) أَيْ الْمُوَكِّلَ (رَضِيَ بِأَمَانَتِهِمَا لَا بِأَمَانَةِ أَحَدِهِمَا) وَحْدَهُ (وَاجْتِمَاعُهُمَا مُمْكِنٌ) أَيْ اجْتِمَاعُ الْوَكِيلَيْنِ عَلَى الْقَبْضِ مُمْكِنٌ شَرْعًا فَإِنَّهُمَا يَصِيرَانِ قَابِضَيْنِ بِالتَّخْلِيَةِ بِلَا مَحْذُورٍ (بِخِلَافِ الْخُصُومَةِ) فَإِنَّ اجْتِمَاعَهُمَا عَلَيْهَا غَيْرُ مُمْكِنٍ شَرْعًا (عَلَى مَا مَرَّ) أَشَارَ بِهِ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ الِاجْتِمَاعَ فِيهَا مُتَعَذِّرٌ لِلْإِفْضَاءِ إلَى الشَّغْبِ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ (قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَالْوَكِيلُ بِقَبْضِ الدَّيْنِ يَكُونُ وَكِيلًا بِالْخُصُومَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) قَيَّدَ بِقَبْضِ الدَّيْنِ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِقَبْضِ الْعَيْنِ لَا يَكُونُ وَكِيلًا بِالْخُصُومَةِ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى مَا سَيَجِيءُ، وَالْكَلَامُ فِيهِ يَرْجِعُ إلَى أَصْلِهِ. وَهُوَ أَنَّ التَّوْكِيلَ إذَا وَقَعَ بِاسْتِيفَاءِ عَيْنِ حَقِّ الْمُوَكِّلِ لَمْ يَكُنْ وَكِيلًا بِالْخُصُومَةِ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ بِالْخُصُومَةِ وَقَعَ بِالْقَبْضِ لَا غَيْرُ، وَإِذَا وَقَعَ التَّوْكِيلُ بِالتَّمَلُّكِ كَانَ وَكِيلًا بِالْخُصُومَةِ لِأَنَّ التَّمَلُّكَ إنْشَاءُ تَصَرُّفٍ وَحُقُوقُ الْعَقْدِ تَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ، كَذَا قَالُوا وَسَيَظْهَرُ حُكْمُ هَذَا الْأَصْلِ فِي دَلِيلِ الْمَسْأَلَةِ.
وَنَقَلَ فِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى عَنْ مَفْقُودِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ أَنَّ الْوَكِيلَ بِقَبْضِ الدَّيْنِ لَا يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ إجْمَاعًا إنْ كَانَ الْوَكِيلُ مِنْ الْقَاضِي كَمَا لَوْ وَكَّلَ وَكِيلًا بِقَبْضِ دُيُونِ الْغَائِبِ، كَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ. ثُمَّ إنَّ الْمُصَنِّفَ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ ثَمَرَةَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ (حَتَّى لَوْ أُقِيمَتْ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْوَكِيلِ بِقَبْضِ الدَّيْنِ (الْبَيِّنَةُ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْمُوَكَّلِ) أَيْ عَلَى اسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ مِنْ الْمَدْيُونِ (أَوْ إبْرَائِهِ) أَيْ أَوْ عَلَى إبْرَاءِ الْمُوَكِّلِ الْمَدْيُونَ عَنْ الدَّيْنِ (تُقْبَلُ عِنْدَهُ) أَيْ تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَفِي الذَّخِيرَةِ: إذَا جَحَدَ الْغَرِيمُ الدَّيْنَ وَأَرَادَ الْوَكِيلُ بِالْقَبْضِ أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الدَّيْنِ هَلْ تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ؟ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ تُقْبَلُ، وَعَلَى قَوْلِهِمَا لَا تُقْبَلُ (وَقَالَا: لَا يَكُونُ خَصْمًا) أَيْ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: لَا يَكُونُ الْوَكِيلُ بِقَبْضِ الدَّيْنِ خَصْمًا (وَهُوَ) أَيْ قَوْلُهُمَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute