فِي الْأَمْصَارِ لِظُهُورِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ فِيهَا. بِخِلَافِ السَّوَادِ. قَالُوا: هَذَا كَانَ فِي سَوَادِ الْكُوفَةِ، لِأَنَّ غَالِبَ أَهْلِهَا أَهْلُ الذِّمَّةِ.
فَأَمَّا فِي سَوَادِنَا فَأَعْلَامُ الْإِسْلَامِ فِيهَا ظَاهِرَةٌ فَلَا يُمَكَّنُونَ فِيهَا أَيْضًا، وَهُوَ الْأَصَحُّ.
قَالَ (وَمَنْ حَمَلَ لِذِمِّيٍّ خَمْرًا فَإِنَّهُ يَطِيبُ لَهُ الْأَجْرُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ)؛ لِأَنَّهُ إعَانَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَقَدْ صَحَّ " أَنَّ النَّبِيَّ ﵊ لَعَنَ فِي الْخَمْرِ عَشْرًا حَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَ إلَيْهِ " لَهُ أَنَّ الْمَعْصِيَةَ فِي شُرْبِهَا وَهُوَ فِعْلُ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ، وَلَيْسَ الشِّرْبُ مِنْ ضَرُورَاتِ الْحَمْلِ وَلَا يُقْصَدُ بِهِ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى الْحَمْلِ الْمَقْرُونِ بِقَصْدِ الْمَعْصِيَةِ.
قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ بِنَاءِ بُيُوتِ مَكَّةَ، وَيُكْرَهُ بَيْعُ أَرْضِهَا) وَهَذَا عِنْدَ
الْمُعْتَبَرَاتِ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ خِلَافٍ فِي شَيْءٍ مِنْهَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ أَئِمَّتِنَا.
مِنْهَا أَنَّهُ إذَا اسْتَأْجَرَ الذِّمِّيُّ مِنْ الْمُسْلِمِ بِيعَةً لِيُصَلِّيَ فِيهَا فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ. قَالَ فِي الْمُحِيطِ وَالذَّخِيرَةِ. لِأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهَا لِيُصَلِّيَ فِيهَا، وَصَلَاةُ الذِّمِّيِّ مَعْصِيَةٌ عِنْدَنَا وَطَاعَةٌ فِي زَعْمِهِ، وَأَيُّ ذَلِكَ اعْتَبَرْنَا كَانَتْ الْإِجَارَةُ بَاطِلَةً؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ عَلَى مَا هُوَ طَاعَةٌ أَوْ مَعْصِيَةٌ لَا تَجُوزُ انْتَهَى. وَمِنْهَا أَنَّهُ إذَا اسْتَأْجَرَ الْمُسْلِمُ مِنْ الْمُسْلِمِ بَيْتًا لِيَجْعَلَهُ مَسْجِدًا يُصَلِّي فِيهِ الْمَكْتُوبَةَ أَوْ النَّافِلَةَ. فَإِنَّ هَذِهِ الْإِجَارَةَ لَا تَجُوزُ فِي قَوْلِ عُلَمَائِنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَجُوزُ. قَالَ فِي الْمُحِيطِ: وَهَذَا لِأَنَّهَا وَقَعَتْ عَلَى مَا هُوَ طَاعَةٌ، فَإِنَّ تَسْلِيمَ الدَّارِ لِيُصَلِّيَ فِيهَا طَاعَةٌ، وَمِنْ مَذْهَبِنَا أَنَّ الْإِجَارَةَ عَلَى مَا هُوَ طَاعَةٌ لَا تَجُوزُ وَعِنْدَهُ تَجُوزُ، وَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِلْأَذَانِ أَوْ الْإِمَامَةِ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ طَاعَةٌ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَجُوزُ فَكَذَلِكَ هَذَا انْتَهَى.
وَمِنْهَا أَنَّهُ إذَا اسْتَأْجَرَ ذِمِّيٌّ مِنْ ذِمِّيٍّ بَيْتًا يُصَلِّي فِيهِ لَا يَجُوزُ. قَالَ فِي الْمُحِيطِ وَالذَّخِيرَةِ: لِأَنَّ صَلَاتَهُمْ طَاعَةٌ عِنْدَهُمْ مَعْصِيَةٌ عِنْدَنَا، وَأَيُّ ذَلِكَ كَانَ لَمْ تَجُزْ الْإِجَارَةُ انْتَهَى.
إذْ لَا يَخْفَى أَنَّ التَّعْلِيلَ الْمَذْكُورَ فِي الْكِتَابِ مِنْ قِبَلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي مَسْأَلَتِنَا يَقْتَضِي أَنْ لَا تَبْطُلَ الْإِجَارَةُ فِي تِلْكَ الْمَسَائِلِ أَيْضًا، فَإِنَّ الْإِجَارَةَ إنَّمَا تَرِدُ عَلَى مَنْفَعَةِ الْبَيْتِ وَلِهَذَا يَجِبُ الْأَجْرُ بِمُجَرَّدِ التَّسْلِيمِ، وَمَنْفَعَةُ الْبَيْتِ لَيْسَ بِطَاعَةٍ وَلَا مَعْصِيَةٍ، وَإِنَّمَا الطَّاعَةُ وَالْمَعْصِيَةُ بِفِعْلِ الْمُسْتَأْجِرِ وَهُوَ مُخْتَارٌ فِيهِ. فَقَطَعَ نِسْبَةَ ذَلِكَ الْفِعْلِ عَنْ الْمُؤَجِّرِ، فَيَنْبَغِي أَنْ تَصِحَّ الْإِجَارَةُ فِيهَا أَيْضًا عِنْدَهُ مَعَ أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَذَلِكَ كَمَا عَرَفْت. فَإِنْ قُلْت: إنَّ الْإِجَارَةَ وَإِنْ وَرَدَتْ عَلَى مَنْفَعَةِ الْبَيْتِ إلَّا أَنَّ لِجَعْلِ مَنْفَعَتِهِ حِينَ الْعَقْدِ لِأَجْلِ الطَّاعَةِ أَوْ الْمَعْصِيَةِ تَأْثِيرًا فِي بُطْلَانِ الْإِجَارَةِ. قُلْت: فَلْيَكُنْ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ أَيْضًا. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ تِلْكَ الْمَسَائِلِ وَمَسْأَلَتِنَا هَذِهِ فِي الْحُكْمِ وَالدَّلِيلِ مُشْكِلٌ جِدًّا فَلْيُتَأَمَّلْ.
ثُمَّ إنَّهُ ذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ وَالْمُحِيطِ: إذَا اسْتَأْجَرَ الذِّمِّيُّ مِنْ الْمُسْلِمِ دَارًا لِيَسْكُنَهَا فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ وَقَعَتْ عَلَى أَمْرٍ مُبَاحٍ فَجَازَتْ. وَإِنْ شَرِبَ فِيهَا الْخَمْرَ أَوْ عَبَدَ فِيهَا الصَّلِيبَ أَوْ أَدْخَلَ فِيهَا الْخَنَازِيرَ لَمْ يَلْحَقْ الْمُسْلِمَ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَمْ يُؤَاجِرْهَا لَهَا إنَّمَا أَجَّرَ لِلسُّكْنَى فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَجَّرَ دَارًا مِنْ فَاسِقٍ كَانَ مُبَاحًا وَإِنْ كَانَ قَدْ يَعْصِي فِيهَا، وَلَوْ اتَّخَذَ فِيهَا بِيعَةً أَوْ كَنِيسَةً أَوْ بَيْتَ نَارٍ يُمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ إنْ كَانَ فِي السَّوَادِ.
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: وَأَرَادَ بِهَذَا إذَا اسْتَأْجَرَهَا الذِّمِّيُّ لِيَسْكُنَهَا، ثُمَّ أَرَادَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَتَّخِذَ كَنِيسَةً أَوْ بِيعَةً فِيهَا، فَأَمَّا إذَا اسْتَأْجَرَهَا فِي الِابْتِدَاءِ لِيَتَّخِذَهَا بِيعَةً أَوْ كَنِيسَةً لَا يَجُوزُ إلَى هُنَا لَفْظُ الذَّخِيرَةِ وَالْمُحِيطِ. قَالَ: بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بَعْدَ نَقْلِ ذَلِكَ عَنْ صَاحِبِ الْمُحِيطِ: وَلَا خَفَاءَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ التَّنَافِي. أَقُولُ: إنَّ التَّنَافِيَ بَيْنَهُمَا مَمْنُوعٌ. إذْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِنَاءُ قَوْلِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ فَأَمَّا إذَا اسْتَأْجَرَهَا فِي الِابْتِدَاءِ لِيَتَّخِذَهَا بِيعَةً أَوْ كَنِيسَةً لَا يَجُوزُ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، لِكَوْنِ مُخْتَارِ نَفْسِهِ قَوْلَهُمَا، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ التَّنَافِي بَيْنَهُمَا. أَنْ لَوْ قَالَ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَوْ قَالَ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا وَلَيْسَ فَلَيْسَ. وَذِكْرُ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْخِلَافِيَّةِ بِدُونِ بَيَانِ الْخِلَافِ لَيْسَ بِعَزِيزٍ فِي كَلَامِ الثِّقَاتِ. وَعَنْ هَذَا نَرَى كَثِيرًا مِنْ أَصْحَابِ الْمُتُونِ يَذْكُرُونَ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَسَائِلِ الْخِلَافِيَّةِ بِدُونِ بَيَانِ الْخِلَافِ. ثُمَّ الشُّرَّاحُ يُبَيِّنُونَ الْخِلَافَ الْوَاقِعَ فِي ذَلِكَ، وَكَيْفَ لَا يَكُونُ مُرَادُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ بِقَوْلِهِ الْمَزْبُورَ مَا ذَكَرْنَاهُ. وَقَدْ صَرَّحَ مُحَمَّدٌ ﵀ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِأَنَّهُ لَا بَأْسَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنْ تُؤَاجِرَ بَيْتَك لِيُتَّخَذَ فِيهِ بَيْتُ نَارٍ أَوْ كَنِيسَةٌ أَوْ بِيعَةٌ أَوْ يُبَاعُ الْخَمْرُ فِيهِ بِالسَّوَادِ. وَهَلْ يَلِيقُ بِمِثْلِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ أَنْ يَغْفُلَ عَنْ مَسْأَلَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ.
ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ الْبَعْضُ: ثُمَّ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ صَرِيحٌ فِي أَنَّ إجَارَةَ الْبَيْتِ لِيُبَاعَ فِيهِ الْخَمْرُ مَعَ كَوْنِهِ مَعْصِيَةً إنَّمَا صَحَّتْ