وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَدْخُلُ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جِنَايَةٌ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ فَلَا يَتَدَاخَلَانِ كَسَائِرِ الْجِنَايَاتِ. وَجَوَابُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ. قَالَ (وَإِنْ ذَهَبَ سَمْعُهُ أَوْ بَصَرُهُ أَوْ كَلَامُهُ فَعَلَيْهِ أَرْشُ الْمُوضِحَةِ مَعَ الدِّيَةِ) قَالُوا: هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الشَّجَّةَ تَدْخُلُ فِي دِيَةِ السَّمْعِ وَالْكَلَامِ وَلَا تَدْخُلُ فِي دِيَةِ الْبَصَرِ. وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا جِنَايَةٌ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ وَالْمَنْفَعَةُ مُخْتَصَّةٌ بِهِ فَأَشْبَهَ الْأَعْضَاءَ الْمُخْتَلِفَةَ، بِخِلَافِ الْعَقْلِ لِأَنَّ مَنْفَعَتَهُ عَائِدَةٌ إلَى جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ عَلَى مَا بَيَّنَّا.
الشَّعْرِ لَا بِمُجَرَّدِ تَفْرِيقِ الِاتِّصَالِ، وَالْإِيلَامُ الشَّدِيدُ أَمْرٌ خَفِيٌّ جِدًّا غَيْرُ مَعْلُومٍ بِدُونِ الْبَيَانِ وَالْإِعْلَامِ، إذْ كَانَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ مِمَّا ذَكَرُوا فِي فَصْلِ الشِّجَاجِ أَنْ لَا يُشْتَرَطَ فِي وُجُوبِ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ فَوَاتُ جُزْءٍ مِنْ الشَّعْرِ بِالْكُلِّيَّةِ بِأَنْ لَا يَنْبُتَ بَعْدُ أَصْلًا، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: الْمُوضِحَةُ مِنْ الشِّجَاجِ هِيَ الَّتِي تُوضِحُ الْعَظْمَ: أَيْ تُبَيِّنُهُ ثُمَّ بَيَّنُوا حُكْمَهَا بِأَنَّهُ الْقِصَاصُ إنْ كَانَتْ عَمْدًا، وَنِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ إنْ كَانَتْ خَطَأً، وَلَا شَكَّ أَنَّ اسْمَ الْمُوضِحَةِ وَحَدَّهَا الْمَذْكُورَ يَتَحَقَّقَانِ فِيمَا نَبَتَ فِيهِ الشَّعْرُ أَيْضًا، فَكَانَ اشْتِرَاطُ أَنْ لَا يَنْبُتَ الشَّعْرُ بَعْدَ الْبُرْءِ أَصْلًا فِي وُجُوبِ أَرْشِهَا أَمْرًا خَفِيًّا مُحْتَاجًا إلَى الْبَيَانِ بَلْ إلَى الْبُرْهَانِ، وَلِهَذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَأَرْشُ الْمُوضِحَةِ يَجِبُ بِفَوَاتِ جُزْءٍ مِنْ الشَّعْرِ حَتَّى لَوْ نَبَتَ يَسْقُطُ.
وَقَالَ فِي الْكَافِي: وَوُجُوبُ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ بِاعْتِبَارِ ذَهَابِ الشَّعْرِ، وَلِهَذَا لَوْ نَبَتَ الشَّعْرُ عَلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَاسْتَوَى لَا يَجِبُ شَيْءٌ. وَقَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: وُجُوبُ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ بِاعْتِبَارِ ذَهَابِ الشَّعْرِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ نَبَتَ الشَّعْرُ عَلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَاسْتَوَى كَمَا كَانَ لَا يَجِبُ شَيْءٌ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْبَيَانَاتِ الْوَاقِعَةِ مِنْ الثِّقَاتِ (قَوْلُهُ وَجَوَابُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: قِيلَ يَعْنِي بِهِ قَوْلَهُ لِأَنَّ بِفَوَاتِ الْعَقْلِ تَبْطُلُ مَنْفَعَةُ جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ، وَقِيلَ: قَوْلُهُ وَقَدْ تَعَلَّقَا بِسَبَبٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَشْمَلُ مِنْ الْأَوَّلِ انْتَهَى. أَقُولُ: فِي قَوْلِهِ وَهُوَ أَشْمَلُ بَحْثٌ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَقَدْ تَعَلَّقَا بِسَبَبٍ وَاحِدٍ إنَّمَا هُوَ فَوَاتُ الشَّعْرِ كَمَا يَرْشُدُ إلَيْهِ قَوْلُهُ فَدَخَلَ الْجُزْءُ فِي الْجُمْلَةِ، لِأَنَّ الْجُزْئِيَّةَ إنَّمَا تُوجَدُ فِي صُورَةِ فَوَاتِ شَعْرِ رَأْسِهِ بِالشَّجَّةِ لَا فِي صُورَةِ ذَهَابِ عَقْلِهِ بِهَا، وَقَدْ صَرَّحَ الشُّرَّاحُ حَتَّى صَاحِبُ الْعِنَايَةِ نَفْسُهُ بِكَوْنِ مُرَادِ الْمُصَنِّفِ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ هُنَاكَ فَوَاتُ الشَّعْرِ حَيْثُ قَالَ فِي شَرْحِهِ قَوْلُهُ وَقَدْ تَعَلَّقَا: يَعْنِي أَرْشَ الْمُوضِحَةِ وَالدِّيَةَ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ وَهُوَ فَوَاتُ الشَّعْرِ، لَكِنَّ سَبَبَ الْمُوضِحَةِ الْبَعْضُ وَسَبَبُ الدِّيَةِ الْكُلُّ فَدَخَلَ الْجُزْءُ فِي الْجُمْلَةِ انْتَهَى.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى يَخْتَصُّ بِالْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ، وَهِيَ صُورَةُ ذَهَابِ شَعْرِ رَأْسِهِ، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ لِأَنَّ بِفَوَاتِ الْعَقْلِ تَبْطُلُ مَنْفَعَةُ جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ مُخْتَصٌّ بِالْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَهِيَ صُورَةُ ذَهَابِ عَقْلِهِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْقَوْلَ الثَّانِي أَشْمَلُ مِنْ الْأَوَّلِ؟ وَالْوَجْهُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي قَوْلِهِ وَجَوَابُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ مَجْمُوعَ مَا ذَكَرَهُ فِي تَعْلِيلَيْ الْمَسْأَلَتَيْنِ فَحِينَئِذٍ يُوجَدُ الشُّمُولُ بِلَا غُبَارٍ كَمَا لَا يَخْفَى (قَوْلُهُ وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ جِنَايَةٌ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ وَالْمَنْفَعَةُ مُخْتَصَّةٌ بِهِ فَأَشْبَهَ الْأَعْضَاءَ الْمُخْتَلِفَةَ، بِخِلَافِ الْعَقْلِ لِأَنَّ مَنْفَعَتَهُ عَائِدَةٌ إلَى جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ) قَالَ فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ: قَالَ الْهِنْدُوَانِيُّ: كُنَّا نُفَرِّقُ بِهَذَا الْفَرْقِ حَتَّى رَأَيْت مَا يَنْقُضُهُ، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ قَطَعَ يَدَهُ فَذَهَبَ عَقْلُهُ أَنَّ عَلَيْهِ دِيَةَ الْعَقْلِ وَأَرْشَ الْيَدِ بِلَا خِلَافٍ مِنْ أَحَدٍ، فَلَوْ كَانَ زَوَالُ الْعَقْلِ كَزَوَالِ الرُّوحِ لَمَا وَجَبَ أَرْشُ الْيَدِ كَمَا لَوْ مَاتَ، وَالصَّحِيحُ مِنْ الْفَرْقِ أَنَّ الْجِنَايَةَ وَقَعَتْ عَلَى عُضْوٍ وَاحِدٍ فِي الْعَقْلِ، وَوَقَعَتْ فِي السَّمْعِ وَالْبَصَرِ عَلَى عُضْوَيْنِ فَلَا يَدْخُلُ انْتَهَى.
أَقُولُ: كَمَا يُنْتَقَضُ الْفَرْقُ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute