للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ بِالْعَقْلِ ثُلُثَ دِيَةِ النَّفْسِ أَوْ أَقَلَّ كَانَ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ وَمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ إلَى تَمَامِ الثُّلُثَيْنِ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ إلَى تَمَامِ الدِّيَةِ فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ

وَمَا وَجَبَ عَلَى الْعَاقِلَةِ مِنْ الدِّيَةِ أَوْ عَلَى الْقَاتِلِ بِأَنْ قَتَلَ الْأَبُ ابْنَهُ عَمْدًا فَهُوَ فِي مَالِهِ ثَلَاثَ سِنِينَ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : وَمَا وَجَبَ عَلَى الْقَاتِلِ فِي مَالِهِ فَهُوَ حَالٌّ، لِأَنَّ التَّأْجِيلَ لِلتَّخْفِيفِ لِتَحَمُّلِ الْعَاقِلَةِ فَلَا يَلْحَقُ بِهِ الْعَمْدُ الْمَحْضُ.

وَلَنَا أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَاهُ وَالشَّرْعَ وَرَدَ بِهِ مُؤَجَّلًا فَلَا يَتَعَدَّاهُ.

أَقُولُ: أَرَاهُمْ خَرَجُوا هُنَا عَنْ سُنَنِ الصَّوَابِ إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ لِمَا ذَكَرْنَا دَلِيلٌ عَلَى قَوْلِهِ يُؤْخَذُ مِنْهَا كُلُّ الدِّيَةِ فَحِينَئِذٍ لَا مَجَالَ لِكَوْنِ قَوْلِهِ الْمَزْبُورِ إشَارَةً إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ الْوُجُوبَ بِالْقَضَاءِ، إذْ لَا تَأْثِيرَ لِكَوْنِ الْوُجُوبِ بِالْقَضَاءِ فِي أَنْ يُؤْخَذَ كُلُّ الدِّيَةِ مِنْ الْعَطَايَا الْخَارِجَةِ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ، بَلْ إنَّمَا يَكُونُ قَوْلُهُ الْمَزْبُورُ حِينَئِذٍ إشَارَةً إلَى قَوْلِهِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ فَإِنَّهُ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا عَلَيْهِ إذْ ذَاكَ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذِي مُسْكَةٍ. نَعَمْ لَوْ جُعِلَ قَوْلُهُ الْمَزْبُورُ دَلِيلًا عَلَى قَوْلِهِ مَعْنَاهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَصَحَّ جَعْلُ ذَلِكَ إشَارَةً إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ الْوُجُوبَ بِالْقَضَاءِ لَكِنَّ جَعْلَهُ دَلِيلًا عَلَى مَا وَقَعَ ذِكْرُهُ مِنْ الْمُصَنِّفِ اسْتِطْرَادًا وَبِالتَّبَعِ وَهُوَ قَوْلُهُ مَعْنَاهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَتَرَكَ مَا هُوَ أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ وَمَقْصُودٌ بِالذَّاتِ هُنَا خَالِيًا عَنْ الدَّلِيلِ بِالْكُلِّيَّةِ مِمَّا لَا تَقْبَلُهُ الْفِطْرَةُ السَّلِيمَةُ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ ذَلِكَ لَمَا أَخَّرَ قَوْلَهُ لِمَا ذَكَرْنَا عَنْ جَوَابِ الْمَسْأَلَةِ بَلْ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَذْكُرَهُ مُتَّصِلًا بِقَوْلِهِ مَعْنَاهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ.

(قَوْلُهُ وَمَا وَجَبَ عَلَى الْعَاقِلَةِ مِنْ الدِّيَةِ أَوْ عَلَى الْقَاتِلِ بِأَنْ قَتَلَ الْأَبُ ابْنَهُ عَمْدًا فَهُوَ فِي مَالِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ) أَقُولُ: هَذَا التَّحْرِيرُ مُخْتَلٌّ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ خَبَرَ " مَا " فِي قَوْلِهِ وَمَا وَجَبَ عَلَى الْعَاقِلَةِ إنَّمَا هُوَ قَوْلُهُ فَهُوَ فِي مَالِهِ، إذْ لَوْ كَانَ خَبَرُهُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ لَمْ يَكُنْ لِلْفَاءِ فِي قَوْلِهِ فَهُوَ فِي مَالِهِ مَعْنًى، بَلْ لَمْ يَظْهَرْ لِضَمِيرِ هُوَ فِي قَوْلِهِ فَهُوَ فِي مَالِهِ ارْتِبَاطٌ بِمَا قَبْلَهُ، وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا لَا سُتْرَةَ بِهِ عِنْدَ مَنْ لَهُ دُرْبَةٌ بِأَسَالِيبِ الْكَلَامِ وَالْقَوَاعِدِ الْأَدَبِيَّةِ، فَإِنْ كَانَ خَبَرُ " مَا " قَوْلَهُ فَهُوَ فِي مَالِهِ لَمْ يَصِحَّ مَعْنَى الْكَلَامِ فِي الْمَقَامِ، فَإِنَّ مَا وَجَبَ عَلَى الْعَاقِلَةِ مِنْ الدِّيَةِ لَيْسَ مِنْ مَالِ الْقَاتِلِ بِلَا رَيْبٍ.

فَالْحَقُّ فِي تَحْرِيرِ الْمَقَامِ أَنْ يُقَالَ: وَمَا وَجَبَ عَلَى الْعَاقِلَةِ مِنْ الدِّيَةِ أَوْ عَلَى الْقَاتِلِ فِي مَالِهِ بِأَنْ قَتَلَ الْأَبُ ابْنَهُ عَمْدًا فَهُوَ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ (قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَاهُ، وَالشَّرْعَ وَرَدَ بِهِ مُؤَجَّلًا فَلَا يَتَعَدَّاهُ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ إنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَاهُ: أَيْ الْقِيَاسُ يَأْبَى إيجَابَ الْمَالِ بِمُقَابَلَةِ النَّفْسِ: يَعْنِي لَا يَقْتَضِيهِ لِأَنَّ الْقِيَاسَ مِنْ حُجَجِ الشَّرْعِ وَهِيَ لَا تَتَنَاقَضُ انْتَهَى.

أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِشَرْحٍ صَحِيحٍ. أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعْنَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ إنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَاهُ هُوَ أَنَّهُ لَا يَقْتَضِيهِ لَمَا أَثْبَتَ دَلِيلُنَا الْمَذْكُورُ هَاهُنَا مُدَّعَانَا، فَإِنَّ إيجَابَ الْمَالِ بِمُقَابَلَةِ النَّفْسِ لَا يَكُونُ حِينَئِذٍ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ، لِأَنَّ عَدَمَ اقْتِضَاءِ الْقِيَاسِ إيَّاهُ لَيْسَ بِاقْتِضَاءٍ لِعَدَمِهِ، وَالْمُخَالَفَةُ إنَّمَا تَتَحَقَّقُ فِي الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ وُرُودِ الشَّرْعِ بِإِيجَابِ الْمَالِ فِي الْخَطَإِ مُؤَجَّلًا أَنْ لَا يَتَعَدَّى غَيْرُهُ، لِأَنَّ الَّذِي لَا يَتَعَدَّى مَوْرِدُهُ إنَّمَا هُوَ مَا يُخَالِفُ الْقِيَاسَ كَمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ. وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ " وَهِيَ ": أَيْ حُجَجُ الشَّرْعِ لَا تَتَنَاقَضُ أَنَّ حُجَجَهُ الْمَعْمُولَ بِهَا لَا تَتَنَاقَضُ فَمُسَلَّمٌ، لَكِنَّ الْقِيَاسَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ بِمَعْمُولٍ بِهِ بَلْ هُوَ مَتْرُوكٌ بِالنَّصِّ الْوَارِدِ بِإِيجَابِ الْمَالِ فَلَا مَحْذُورَ فِي اقْتِضَائِهِ عَدَمَ إيجَابِ الْمَالِ بِمُقَابَلَةِ النَّفْسِ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّ حُجَجَ الشَّرْعِ لَا تَتَنَاقَضُ مُطْلَقًا: أَيْ سَوَاءٌ كَانَتْ مَعْمُولًا بِهَا أَوْ لَا فَمَمْنُوعٌ، كَيْفَ وَقَدْ وَضَعُوا فِي كُتُبِ الْأُصُولِ بَابًا لِلْمُعَارَضَةِ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَالتَّرْجِيحِ، وَبَيَّنُوا أَحْكَامَ ذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيلِ. وَالْعَجَبُ مِنْ الشَّارِحِ الْمَزْبُورِ أَنَّهُ رَفَضَ هُنَا عِدَّةً مِنْ الْقَوَاعِدِ

<<  <  ج: ص:  >  >>