بِهَا فَقَتَلَ أَحَدُهُمْ قَتِيلًا فَدِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْلِمِ) لِأَنَّهُمْ الْتَزَمُوا أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فِي الْمُعَامَلَاتِ لَا سِيَّمَا فِي الْمَعَانِي الْعَاصِمَةِ عَنْ الْإِضْرَارِ، وَمَعْنَى التَّنَاصُرِ مَوْجُودٌ فِي حَقِّهِمْ (وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ عَاقِلَةٌ مَعْرُوفَةٌ فَالدِّيَةُ فِي مَالِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ يَوْمِ يُقْضَى بِهَا عَلَيْهِ) كَمَا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْوُجُوبَ عَلَى الْقَاتِلِ وَإِنَّمَا يَتَحَوَّلُ عَنْهُ إلَى الْعَاقِلَةِ أَنْ لَوْ وُجِدَتْ، فَإِذَا لَمْ تُوجَدْ بَقِيَتْ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ تَاجِرَيْنِ مُسْلِمَيْنِ فِي دَارِ الْحَرْبِ قَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ يُقْضَى بِالدِّيَةِ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ لِأَنَّ أَهْلَ دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يَعْقِلُونَ عَنْهُ، وَتَمَكُّنُهُ مِنْ هَذَا الْقَتْلِ لَيْسَ بِنُصْرَتِهِمْ.
(وَلَا يَعْقِلُ كَافِرٌ عَنْ مُسْلِمٍ وَلَا مُسْلِمٌ عَنْ كَافِرٍ) لِعَدَمِ التَّنَاصُرِ
اخْتِيَارِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَدْخُلُ فِي التَّحَمُّلِ مَعَ الْعَاقِلَةِ، إلَّا أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِأَصْلِ الرِّوَايَةِ وَإِنَّمَا هُوَ اخْتِيَارُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَمَا ذُكِرَ هُنَا هُوَ اخْتِيَارُ الطَّحَاوِيِّ وَهُوَ الْأَصَحُّ وَهُوَ أَصْلُ رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ انْتَهَى.
وَقَالَ فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُخَالِفَةٌ لِمَا مَرَّ قُبَيْلَ كِتَابِ الْمَعَاقِلِ أَنَّهُ لَوْ وُجِدَ قَتِيلٌ فِي دَارِ امْرَأَةٍ أَنَّ الْمَرْأَةَ تُشَارِكُ الْعَاقِلَةَ عِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ، إلَّا أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا عَلَى رِوَايَةِ الْمُتَقَدِّمِينَ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَدْخُلُ فِي الْعَوَاقِلِ فِي صُورَةٍ مِنْ الصُّوَرِ انْتَهَى، وَقَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ: فَإِنْ قُلْت: قَدْ مَرَّ قُبَيْلَ كِتَابِ الْمَعَاقِلِ أَنَّ الْقَتِيلَ إذَا وُجِدَ فِي قَرْيَةِ امْرَأَةٍ تَجِبُ الْقَسَامَةُ عَلَيْهَا وَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَذَهَبَ الْمَشَايِخُ الْمُتَأَخِّرُونَ إلَى أَنَّهَا تُشَارِكُ الْعَاقِلَةَ فِي الدِّيَةِ فَكَيْفَ لَمْ تُشَارِكْهُمْ هُنَا. قُلْت: ثَمَّةَ لَا تُشَارِكُهُمْ فِي الدِّيَةِ عَلَى مَا هُوَ الْمَنْصُوصُ مِنْ مُحَمَّدٍ، وَإِنَّمَا اسْتَحْسَنَ الْمُتَأَخِّرُونَ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ خَاصَّةً انْتَهَى، ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: فَإِنْ قُلْت: هَذَا الْجَوَابُ يَبْتَنِي عَلَى إيجَابِ الْقَسَامَةِ عَلَيْهَا وَفِي ذَلِكَ تَنَاقُضٌ، لِأَنَّهُ قَالَ قَبْلَ هَذَا وَلَا قَسَامَةَ عَلَى صَبِيٍّ إلَى أَنْ قَالَ وَلَا امْرَأَةٍ وَلَا عَبْدٍ، وَقَالَ هَاهُنَا: لَوْ وُجِدَ قَتِيلٌ فِي قَرْيَةٍ لِامْرَأَةٍ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ الْقَسَامَةُ عَلَيْهَا تُكَرِّرُ الْأَيْمَانَ وَذَلِكَ تَنَاقُضٌ أَلْبَتَّةَ.
فَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي سِيَاقِ قَوْلِهِ وَإِنْ لَمْ يُكْمِلْ أَهْلُ الْمُحَلَّةِ خَمْسِينَ كُرِّرَتْ الْأَيْمَانُ، فَمَعْنَاهُ لَا يُكْمِلُ أَهْلُ الْمُحَلَّةِ خَمْسِينَ مِنْ الصَّبِيِّ وَالْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ النُّصْرَةِ وَالْيَمِينِ عَلَى أَهْلِهَا، وَأَمَّا هُنَا فَالْقَتِيلُ وُجِدَ فِي قَرْيَتِهَا فَتَجِبُ عَلَيْهَا نَفْيًا لِتُهْمَةِ الْقَتْلِ فَإِنَّهَا تَتَحَقَّقُ مِنْهَا، وَتَبَيَّنَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْقَسَامَةَ إذَا وَجَبَتْ عَلَى الْجَمَاعَةِ تُعَلَّلُ بِالنُّصْرَةِ، فَمَنْ كَانَ أَهْلًا لَهَا يَدْخُلُ وَمَنْ لَا فَلَا، فَلَا يَدْخُلُ الصَّبِيُّ وَالْعَبْدُ وَالْمَرْأَةُ، وَإِذَا وَجَبَتْ عَلَى وَاحِدٍ تُعَلَّلُ بِتُهْمَةِ الْقَتْلِ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ وَمَنْ لَا فَلَا فَتَدْخُلُ الْمَرْأَةُ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ. أَقُولُ: فِيهِ أَيْضًا نَظَرٌ. أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ كَوْنَ ذَلِكَ مَذْكُورًا فِي سِيَاقِ قَوْلِهِ وَإِنْ لَمْ يُكْمِلْ أَهْلُ الْمُحَلَّةِ خَمْسِينَ كُرِّرَتْ الْأَيْمَانُ مَمْنُوعٌ، بَلْ ذَلِكَ مَسْأَلَةٌ مُبْتَدَأَةٌ مَقْصُودَةٌ بِالْبَيَانِ عَلَى الِاسْتِقْلَالِ، إذْ لَوْ كَانَ مَعْنَاهُ لَا يُكْمِلُ أَهْلُ الْمُحَلَّةِ خَمْسِينَ مِنْ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ لَا نَفْيُ صَلَاحِيَتِهِمْ لِلْقَسَامَةِ مُطْلَقًا: أَيْ سَوَاءٌ كَانُوا مُنْضَمِّينَ إلَى الْغَيْرِ لِتَكْمِيلِ الْخَمْسِينَ أَوْ كَانُوا مُنْفَرِدِينَ وَحْدَهُمْ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ بَيَانُ حَالِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالْعَبْدِ فِي أَمْرِ الْقَسَامَةِ عِنْدَ كَوْنِهِمْ مُنْفَرِدِينَ غَيْرَ مُنْضَمِّينَ إلَى الْغَيْرِ مَتْرُوكًا بِالْكُلِّيَّةِ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَكَثِيرٌ مِنْ الْكُتُبِ الْمُعْتَبَرَةِ، إذْ الْفَرْضُ أَنَّ عَدَمَ الصَّلَاحِيَّةِ لِلْقَسَامَةِ حَالَ الِانْضِمَامِ إلَى الْغَيْرِ لِتَكْمِيلِ الْخَمْسِينَ لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الصَّلَاحِيَّةِ لَهَا حَالَ الِانْفِرَادِ إذْ هُوَ حَاصِلُ الْجَوَابِ الَّذِي ذَكَرَهُ لِدَفْعِ التَّنَاقُضِ بَيْنَ الْمَقَامَيْنِ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ كَمَا تَرَى.
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ الْقَسَامَةِ إذَا وَجَبَتْ عَلَى الْجَمَاعَةِ تُعَلَّلُ بِالنُّصْرَةِ، وَإِذَا وَجَبَتْ عَلَى الْوَاحِدِ تُعَلَّلُ بِتُهْمَةِ الْقَتْلِ مِنْ عِنْدِيَاتِهِ لَا يُسَاعِدُهُ الْعَقْلُ وَلَا النَّقْلُ، أَمَّا عَدَمُ مُسَاعَدَةِ الْعَقْلِ فَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ تَرْكِ النُّصْرَةِ وَاحْتِمَالِ الْقَتْلِ مُتَحَقِّقٌ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ صُورَتَيْ وُجُوبِ الْقَسَامَةِ عَلَى الْجَمَاعَةِ وَوُجُوبِهَا عَلَى الْوَاحِدِ، فَتَعْلِيلُ إحْدَاهُمَا بِالْأَوَّلِ وَالْأُخْرَى بِالثَّانِي دُونَ الْعَكْسِ أَوْ الْجَمْعِ تَحَكُّمٌ بَحْتٌ. وَأَمَّا عَدَمُ مُسَاعِدَةِ النَّقْلِ فَلِأَنَّهُمْ كَانُوا يُعَلِّلُونَ وُجُوبَ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ مُطْلَقًا بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْعِلَّتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ يُرَاجِعُ الْمُعْتَبَرَاتِ وَقَدْ مَرَّتْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute