بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهَا إيجَابٌ عِنْدَ الْمَوْتِ وَهِيَ وَارِثَةٌ عِنْدَ ذَلِكَ، وَلَا وَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ، وَالْهِبَةُ وَإِنْ كَانَتْ مُنَجَّزَةً صُورَةً فَهِيَ كَالْمُضَافِ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ حُكْمًا لِأَنَّ حُكْمَهَا يَتَقَرَّرُ عِنْدَ الْمَوْتِ؛ أَلَّا تَرَى أَنَّهَا تَبْطُلُ بِالدَّيْنِ الْمُسْتَغْرِقِ وَعِنْدَ عَدَمِ الدَّيْنِ تُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ.
قَالَ (وَإِذَا أَقَرَّ الْمَرِيضُ لِابْنِهِ بِدَيْنٍ وَابْنُهُ نَصْرَانِيٌّ أَوْ وَهَبَ لَهُ أَوْ أَوْصَى لَهُ فَأَسْلَمَ الِابْنُ قَبْلَ مَوْتِهِ بَطَلَ ذَلِكَ كُلُّهُ). أَمَّا الْهِبَةُ وَالْوَصِيَّةُ فَلِمَا قُلْنَا إنَّهُ وَارِثٌ عِنْدَ الْمَوْتِ وَهُمَا إيجَابَانِ عِنْدَهُ أَوْ بَعْدَهُ، وَالْإِقْرَارُ وَإِنْ كَانَ مُلْزِمًا بِنَفْسِهِ وَلَكِنَّ سَبَبَ الْإِرْثِ وَهُوَ الْبُنُوَّةُ قَائِمٌ وَقْتَ الْإِقْرَارِ فَيُعْتَبَرُ فِي إيرَاثِ تُهْمَةِ الْإِيثَارِ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ لِأَنَّ سَبَبَ الْإِرْثِ الزَّوْجِيَّةُ وَهِيَ طَارِئَةٌ حَتَّى لَوْ كَانَتْ الزَّوْجِيَّةُ قَائِمَةً وَقْتَ الْإِقْرَارِ وَهِيَ نَصْرَانِيَّةٌ ثُمَّ أَسْلَمَتْ قَبْلَ مَوْتِهِ لَا يَصِحُّ الْإِقْرَارُ لِقِيَامِ السَّبَبِ حَالَ صُدُورِهِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ الِابْنُ عَبْدًا أَوْ مُكَاتَبًا فَأُعْتِقَ لِمَا ذَكَرْنَا وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ لِأَنَّهُ أَقَرَّ لِمَوْلَاهُ وَهُوَ أَجْنَبِيٌّ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ إقْرَارٌ لَهُ وَهُوَ ابْنُهُ، وَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيهَا وَقْتُ الْمَوْتِ.
وَأَمَّا الْهِبَةُ فَيُرْوَى أَنَّهَا تَصِحُّ لِأَنَّهَا تَمْلِيكٌ فِي الْحَالِ وَهُوَ رَقِيقٌ، وَفِي عَامَّةِ الرِّوَايَاتِ هِيَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ فَلَا تَصِحُّ. قَالَ (وَالْمُقْعَدُ وَالْمَفْلُوجُ
يَوْمَ الْمَوْتِ لَا يَوْمَ الْوَصِيَّةِ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي فَسَادِ الْإِقْرَارِ وَجَوَازِهِ كَوْنُ الْمُقَرِّ لَهُ وَارِثًا لِلْحَالِ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ تَمْلِيكٌ لِلْحَالِ، فَمَتَى كَانَ الْمُقَرُّ لَهُ وَارِثًا يَوْمَ الْإِقْرَارِ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ إذَا كَانَ الْمُقِرُّ مَرِيضًا اهـ. وَاقْتَفَى أَثَرَهُ فِي هَذَا التَّقْرِيرِ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ. أَقُولُ: فِي عِبَارَتِهِمَا خَلَلٌ حَيْثُ قَالَا: لِأَنَّ الْإِقْرَارَ تَمْلِيكٌ لِلْحَالِ، مَعَ أَنَّهُمْ قَدْ صَرَّحُوا فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ بِأَنَّ الْإِقْرَارَ لَيْسَ بِتَمْلِيكٍ بَلْ هُوَ إظْهَارٌ لَلْمُقَرِّ بِهِ، وَقَالُوا: وَلِهَذَا لَوْ أَقَرَّ لِغَيْرِهِ بِالْمَالِ وَالْمُقَرُّ لَهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَاذِبٌ فِي إقْرَارِهِ لَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُهُ، وَفَرَّعُوا عَلَى ذَلِكَ مَسَائِلَ كَثِيرَةً: مِنْهَا أَنَّ الْمَرِيضَ إذَا أَقَرَّ بِجَمِيعِ مَالِهِ لِأَجْنَبِيٍّ صَحَّ إقْرَارُهُ وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الْوَرَثَةِ، وَلَوْ كَانَ تَمْلِيكًا مُبْتَدَأً لَمْ يَنْفُذْ إلَّا بِقَدْرِ الثُّلُثِ عِنْدَ عَدَمِ إجَازَتِهِمْ، فَحَقُّ الْعِبَارَةِ أَنْ يُقَالَ: لِأَنَّ الْإِقْرَارَ تَصَرُّفٌ فِي الْحَالِ كَمَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ ﵀ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْوَصَايَا فَتَذَكَّرْ.
(قَوْلُهُ وَكَذَا لَوْ كَانَ الِابْنُ عَبْدًا أَوْ مُكَاتَبًا فَأُعْتِقَ لِمَا ذَكَرْنَا) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَالْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ: أَيْ لَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ وَالْهِبَةُ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ مُضَافَةٌ إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ، أَمَّا إذَا أَقَرَّ لَهُ بِدَيْنٍ ثُمَّ أُعْتِقَ قَبْلَ الْمَوْتِ لَمْ يُذْكَرْ هُنَا وَذُكِرَ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ أَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ: أَيْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ يَصِحُّ اهـ.
أَقُولُ: لَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ أَنَّ مَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ مِمَّا يَأْبَاهُ سَدَادُ الْمَعْنَى وَانْتِظَامُ الْكَلَامِ، فَإِنَّهُمَا حَمَلَا قَوْلَ الْمُصَنِّفِ وَكَذَا لَوْ كَانَ الِابْنُ عَبْدًا أَوْ مُكَاتَبًا عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ الْوَصِيَّةِ وَالْهِبَةِ فَقَطْ، مَعَ أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ قَوْلِهِ الْمَذْكُورِ عُمُومُ عَدَمِ الصِّحَّةِ لِلصُّوَرِ الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَةِ فِيمَا قَبْلُ جَمِيعًا وَهِيَ الْإِقْرَارُ وَالْهِبَةُ وَالْوَصِيَّةُ، لِأَنَّهُ كَانَ عَامًّا لَهَا فِي الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ، فَانْتِظَامُ إطْلَاقِ التَّشْبِيهِ فِي قَوْلِهِ وَكَذَا لَوْ كَانَ الِابْنُ عَبْدًا أَوْ مُكَاتَبًا يَقْتَضِي الْعُمُومَ لَهُمَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَيْضًا سِيَّمَا مَعَ انْضِمَامِ قَوْلِهِ لِمَا ذَكَرْنَا إلَيْهَا، فَإِنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ الدَّلِيلِ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الصِّحَّةِ فِي الصُّوَرِ الثَّلَاثِ جَمِيعًا بِلَا رَيْبٍ.
ثُمَّ إنَّ قَوْلَهُمَا أَمَّا إذَا أَقَرَّ لَهُ بِدَيْنٍ ثُمَّ أُعْتِقَ قَبْلَ الْمَوْتِ لَمْ يُذْكَرْ هُنَا، إنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ صُورَةَ الْإِقْرَارِ لَمْ تُذْكَرْ هُنَا بِعَيْنِهَا صَرَاحَةً فَهُوَ مُسَلَّمٌ لَكِنْ صُورَتَا الْوَصِيَّةِ وَالْهِبَةِ أَيْضًا لَمْ تُذْكَرَا هُنَا بِعَيْنِهِمَا صَرَاحَةً بَلْ انْدَرَجَتَا فِي إشَارَةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute