قِطْعَةٍ مِنْهَا لَمْ يَصِحَّ الصُّلْحُ لِأَنَّ مَا قَبَضَهُ مِنْ عَيْنِ حَقِّهِ وَهُوَ عَلَى دَعْوَاهُ فِي الْبَاقِي. وَالْوَجْهُ فِيهِ أَحَدُ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَزِيدَ دِرْهَمًا فِي بَدَلِ الصُّلْحِ فَيَصِيرَ ذَلِكَ عِوَضًا عَنْ حَقِّهِ فِيمَا بَقِيَ، أَوْ يَلْحَقَ بِهِ ذِكْرُ الْبَرَاءَةِ عَنْ دَعْوَى الْبَاقِي.
فِي حَقِّ الْمُدَّعِي فِي تِلْكَ الصُّورَةِ لِقَطْعِ الْخُصُومَةِ، كَمَا صَرَّحُوا بِهِ أَيْضًا. (قَوْلُهُ: أَوْ يَلْحَقَ بِهِ ذِكْرُ الْبَرَاءَةِ عَنْ دَعْوَى الْبَاقِي). قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ صُورَةُ الْبَرَاءَةِ؟ قُلْتُ: هِيَ أَنْ يَقُولَ: قَدْ بَرِئْتَ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ، أَوْ يَقُولَ: قَدْ بَرِئْتَ مِنْ دَعْوَايَ فِي هَذِهِ الدَّارِ، فَهَذَا جَائِزٌ، حَتَّى لَوِ ادَّعَى بَعْدَ ذَلِكَ وَجَاءَ بِبَيِّنَةٍ لَا تُقْبَلُ.
أَمَّا لَوْ قَالَ: أَبْرَأْتُكَ عَنْ هَذِهِ الدَّارِ، أَوْ قَالَ: قَدْ أَبْرَأْتُكَ عَنْ خُصُومَتِي فِي هَذِهِ الدَّارِ، فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ بَاطِلٌ، وَلَهُ أَنْ يُخَاصِمَ فِيهَا بَعْدَ ذَلِكَ. وَفَرْقٌ بَيْنَ قَوْلِهِ: بَرِئْتَ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: أَبْرَأْتُكَ؛ فَإِنَّ فِي قَوْلِهِ: أَبْرَأْتُكَ إِنَّمَا أَبْرَأَهُ مِنْ ضَمَانِهِ لَا مِنَ الدَّعْوَى، وَعَنْ هَذَا قَالُوا: إِنَّ عَبْدًا فِي يَدِ رَجُلٍ لَوْ قَالَ لَهُ رَجُلٌ: بَرِئْتَ مِنْهُ، كَانَ بَرِيئًا مِنْهُ، وَلَوْ قَالَ: " أَبْرَأْتُكَ مِنْهُ "، كَانَ لَهُ أَنْ يَدَّعِيَهُ، وَإِنَّمَا أَبْرَأَهُ مِنْ ضَمَانِهِ، كَذَا فِي الذَّخِيرَةِ، إِلَى هَاهُنَا كَلَامُهُ.
أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ: أَمَّا أَوَّلًا: فَلِأَنَّ بَيَانَ صُورَةِ الْبَرَاءَةِ بِقَوْلِهِ: بَرِئْتَ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ مَعَ كَوْنِهِ غَيْرَ مُطَابِقٍ لِلْمَشْرُوحِ وَهُوَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: أَوْ يَلْحَقَ بِهِ ذِكْرُ الْبَرَاءَةِ عَنْ دَعْوَى الْبَاقِي، يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْبَرَاءَةِ مِنَ الْعَيْنِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَدَارَ عَدَمِ صِحَّةِ الصُّلْحِ عَنْ بَعْضِ الْمُدَّعَى فِي الْعَيْنِ بِدُونِ الْحِيلَةِ فِي تَصْحِيحِهِ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ إِنَّمَا هُوَ عَدَمُ صِحَّةِ الْبَرَاءَةِ مِنَ الْعَيْنِ، وَإِلَّا لَصَحَّ الصُّلْحُ عَلَى ذَلِكَ، بِأَنْ كَانَ اسْتِيفَاءً لِبَعْضِ الْحَقِّ وَإِسْقَاطًا لِبَعْضِهِ الْبَاقِي، كَمَا فِي الصُّلْحِ عَلَى بَعْضِ الْمُدَّعَى فِي الدَّيْنِ، فَالصُّورَةُ الصَّحِيحَةُ الْمُطَابِقَةُ لِلْمَشْرُوحِ إِنَّمَا هُوَ قَوْلُهُ: بَرِئْتَ مِنْ دَعْوَايَ فِي هَذِهِ الدَّارِ.
وَأَمَا ثَانِيًا: فَلِأَنَّ قَوْلَهُ: فَإِنَّ فِي قَوْلِهِ: " أَبْرَأْتُكَ "، إِنَّمَا أَبْرَأَهُ مِنْ ضَمَانِهِ، لَا مِنَ الدَّعْوَى، إِنَّمَا يَتَمَشَّى فِي قَوْلِهِ: أَبْرَأْتُكَ عَنْ هَذِهِ الدَّارِ، لَا فِي قَوْلِهِ: أَبْرَأْتُكَ عَنْ خُصُومَتِي؛ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ مِنَ الْخُصُومَةِ هُوَ الْإِبْرَاءُ مِنَ الدَّعْوَى، وَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّ قَوْلَهُ: أَبْرَأَتُكَ عَنْ خُصُومَتِي فِي هَذِهِ الدَّارِ بَاطِلٌ أَيْضًا بِخِلَافِ مَا قَالُوا فِي عَبْدٍ فِي يَدِ رَجُلٍ؛ فَإِنَّ الْمَذْكُورَ هُنَاكَ فِي جَانِبِ الْإِبْرَاءِ إِنَّمَا هُوَ قَوْلُ الْآخَرِ: أَبْرَأْتُكَ مِنْهُ، لَا غَيْرَ، تَبَصَّرْ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute