كَمَنْ لَهُ عَلَى آخَرَ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَصَالَحَهُ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ، وَكَمَنْ لَهُ عَلَى آخَرَ أَلْفٌ جِيَادٌ فَصَالَحَهُ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ زُيُوفٍ جَازَ وَكَأَنَّهُ أَبْرَأَهُ عَنْ بَعْضِ حَقِّهِ) وَهَذَا لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْعَاقِلِ يَتَحَرَّى تَصْحِيحَهُ مَا أَمْكَنَ، وَلَا وَجْهَ لِتَصْحِيحِهِ مُعَاوَضَةً لِإِفْضَائِهِ إِلَى الرِّبَا فَجُعِلَ إِسْقَاطًا لِلْبَعْضِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَلِلْبَعْضِ وَالصِّفَةِ فِي الثَّانِيَةِ (وَلَوْ صَالَحَ عَلَى أَلْفٍ مُؤَجَّلَةٍ جَازَ وَكَأَنَّهُ أَجَّلَ نَفْسَ الْحَقِّ) لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ مُعَاوَضَةً لِأَنَّ بَيْعَ الدَّرَاهِمِ بِمِثْلِهَا نَسِيئَةً لَا يَجُوزُ فَحَمَلْنَاهُ عَلَى التَّأْخِيرِ (وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى دَنَانِيرَ إِلَى شَهْرٍ لَمْ يَجُزْ) لِأَنَّ الدَّنَانِيرَ غَيْرُ مُسْتَحَقَّةٍ بِعَقْدِ الْمُدَايَنَةِ فَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى التَّأْخِيرِ، وَلَا وَجْهَ لَهُ سِوَى الْمُعَاوَضَةِ، وَبَيْعُ الدَّرَاهِمِ بِالدَّنَانِيرِ نَسِيئَةً لَا يَجُوزُ فَلَمْ يَصِحَّ الصُّلْحُ (وَلَوْ كَانَتْ لَهُ أَلْفٌ مُؤَجَّلَةٌ فَصَالَحَهُ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ حَالَّةً لَمْ يَجُزْ) لِأَنَّ الْمُعَجَّلَ خَيْرٌ مِنَ الْمُؤَجَّلِ وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ بِالْعَقْدِ فَيَكُونُ بِإِزَاءِ مَا حَطَّهُ عَنْهُ،
يُحْمَلُ عَلَى بَيْعِ الصَّرْفِ وَهُوَ مُعَاوَضَةٌ؛ وَإِنْ كَانَ هُوَ مِنْ جِنْسِ مَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ بِعَقْدِ الْمُدَايَنَةِ فَبَعْدَ ذَلِكَ يَنْظَرُ، إِنْ كَانَ مُؤَجَّلًا بَطَلَ الصُّلْحُ وَإِلَّا فَلَا؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ سُودٍ حَالَّةٍ فَصَالَحَهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ بِخِّيَّةٍ إِلَى أَجَلٍ لَا يَجُوزُ. وَالْبَخِّيَّةُ: اسْمٌ لِمَا هُوَ أَجْوَدُ مِنَ السُّودِ، وَلَكِنْ كُلٌّ مِنْهُمَا مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَجُزْ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ مُصَارَفَةً إِلَى أَجَلٍ، وَالصَّرْفُ إِلَى أَجَلٍ بَاطِلٌ، انْتَهَى كَلَامُهُ.
أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ فِي رِوَايَةِ الْكِتَابِ: وَهُوَ مُسْتَحَقٌّ بِعَقْدِ الْمُدَايَنَةِ، يُخْرِجُ مَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى بَيْعِ الصَّرْفِ، فَإِنَّ مَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى بَيْعِ الصَّرْفِ عِنْدَ أَهْلِ الشَّرْعِ مِمَّا وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ لَيْسَ مِمَّا هُوَ مُسْتَحَقٌّ بِعَقْدِ الْمُدَايَنَةِ، وَمَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ بِعَقْدِ الْمُدَايَنَةِ لَيْسَ مِمَّا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى بَيْعِ الصَّرْفِ عِنْدَهُمْ، يَشْهَدُ بِذَلِكَ كُلِّهِ الْأَمْثِلَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْمَسَائِلِ وَأَدِلَّتُهَا الْمُفَصَّلَةُ فِيهِ.
وَأَمَّا الْمِثَالُ الَّذِي ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ: أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ سُودٍ حَالِّةٍ فَصَالَحَهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ بَخِّيَّةٍ إِلَى أَجَلٍ لَا يَجُوزُ، فَبِمَعْزِلٍ عَمَّا نَحْنُ فِيهِ بِمَرَاحِلَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا هُوَ مُسْتَحَقٌّ بِعَقْدِ الْمُدَايَنَةِ وَلَا مِمَّا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى بَيْعِ الصَّرْفِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّ الْبَخِّيَّةَ أَجْوَدُ مِنَ السُّودِ فَفِيهَا زِيَادَةُ وَصَفَ وَهِيَ غَيْرُ مُسْتَحَقَّةٍ بِعَقْدِ الْمُدَايَنَةِ بِالسُّودِ، وَإِنَّمَا الْمُسْتَحَقُّ بِهِ السُّودُ لَا غَيْرَ.
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْأَجَلَ يُمْنَعُ عَنِ الْحَمْلِ عَلَى بَيْعِ الصَّرْفِ، كَمَا اعْتَرَفَ بِهِ نَفْسُهُ؛ حَيْثُ قَالَ: وَإِنَّمَا لَمْ يَجُزْ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ مُصَارَفَةٌ إِلَى أَجَلٍ، وَالصَّرْفُ إِلَى أَجَلٍ بَاطِلٌ.
(قَوْلُهُ: وَهَذَا؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْعَاقِلِ يَتَحَرَّى تَصْحِيحَهُ مَا أَمْكَنَ، وَلَا وَجْهَ لِتَصْحِيحِهِ مُعَاوَضَةً لِإِفْضَائِهِ إِلَى الرِّبَا).
أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّمَا يُفْضِي إِلَى الرِّبَا لَوْ جُعِلَ الْمُصَالَحَ عَلَيْهِ وَهُوَ خَمْسُمِائَةٌ عِوَضًا عَنْ مَجْمُوعِ الْأَلْفِ الْمُدَّعَى، وَأَمَّا إِذَا جُعِلَ عِوَضًا عَمَّا يُسَاوِيهِ مِنْ بَعْضِ الْمُدَّعَى وَهُوَ الْخَمْسُمِائَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الدُّيُونَ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا لَا بِأَعْيَانِهَا فَلَا إِفْضَاءَ إِلَى الرِّبَا، فَمَا بَالُهُمْ حَمَلُوا الصُّلْحَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ اسْتَوْفَى بَعْضَ حَقِّهِ وَأَسْقَطَ بَاقِيَهُ وَلَمْ يَحْمِلُوا عَلَى أَنَّهُ صَارِفٌ بَعْضَ حَقِّهِ، وَأُسْقِطَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute