أَنَّ الدَّفْعَ قَبْلَ الْعَمَلِ إِيدَاعٌ وَبَعْدَهُ إِبْضَاعٌ، وَالْفِعْلَانِ يَمْلِكُهُمَا الْمُضَارِبُ فَلَا يَضْمَنُ بِهِمَا، إِلَّا أَنَّهُ إِذَا رَبِحَ فَقَدْ أَثْبَتَ لَهُ شَرِكَةً فِي الْمَالِ فَيَضْمَنُ كَمَا لَوْ خَلَطَهُ بِغَيْرِهِ، وَهَذَا إِذَا كَانَتِ الْمُضَارَبَةُ صَحِيحَةً، فَإِنْ كَانَتْ فَاسِدَةً لَا يَضْمَنُهُ الْأَوَّلُ، وَإِنْ عَمِلَ الثَّانِي لِأَنَّهُ أَجِيرٌ فِيهِ وَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ فَلَا تَثْبُتُ الشَّرِكَةُ بِهِ.
ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ يَضْمَنُ الْأَوَّلُ وَلَمْ يَذْكُرِ الثَّانِيَ. وَقِيلَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَضْمَنَ الثَّانِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ﵀ وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي مُودِعِ الْمُودَعِ. وَقِيلَ رَبُّ الْمَالِ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْأَوَّلَ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الثَّانِيَ بِالْإِجْمَاعِ
وَمِنْ نَفْسِهِ قَطْعًا، وَإِنَّمَا الْمُرَكَّبُ مِنْهُمَا الِاثْنَانِ: نَعَمْ إِنَّ مُضَارَبَةَ الْمَضَارِبِ لَمَّا اقْتَضَتِ الْمُضَارَبَةَ الْأُولَى جَازَ أَنَّ يَحْصُلَ مِنْ مَجْمُوعِهِمَا أَمْرٌ مُرَكَّبٌ فِي الْعَقْلِ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِمَدَارِ الْحُكْمِ فِي هَذَا الْبَابِ، كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذَوِي الْأَلْبَابِ.
(قَوْلُهُ: وَبَعْدَهُ إِبْضَاعٌ). قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: فِيهِ بَحْثٌ، وَالظَّاهِرُ أَنْ يَقُولَ: تَوْكِيلٌ، كَمَا فِي شَرْحِ الْكَنْزِ لِلْعَلَامَةِ الزَّيْلَعِيِّ، اهـ.
أَقُولُ: لَيْسَ الْأَمْرُ، كَمَا فَهِمَهُ فَإِنَّ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ هَاهُنَا بِأَنَّهُ إِبْضَاعٌ إِنَّمَا هُوَ الدَّفْعُ لَا عَقْدَ الْمُضَارَبَةِ: وَالَّذِي يُنَافِي الْإِبْضَاعَ وَيُلَائِمُ التَّوْكِيلَ إِنَّمَا هُوَ عَقْدُ الْمُضَارَبَةِ لَا الدَّفْعُ نَفْسُهُ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يُلَائِمُ الْإِيدَاعَ قَبْلَ الْعَمَلِ وَالْإِبْضَاعَ بَعْدَهُ لَا التَّوْكِيلُ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ تَفْوِيضُ التَّصَرُّفِ لِأَجْلِ الْمُوَكِّلِ إِلَى غَيْرِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَحْصُلُ مِنَ الدَّفْعِ نَفْسُهُ، بِخِلَافِ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ، كَمَا لَا يَخْفَى.
وَأَمَّا مَا فِي شَرْحِ الْكَنْزِ لِلْعَلَّامَةِ الزَّيْلَعِيِّ فَلَمْ يَحْكُمْ عَلَى الدَّفْعِ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ تَوْكِيلٌ فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ: وَوَجَّهَ الْمَرْوِيَّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْعَقْدَ الْمُجَرَّدَ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ، وَلِهَذَا لَا يُضَمِّنُ الْفُضُولِيُّ بِمُجَرَّدِ بَيْعِ مَالِ الْغَيْرِ وَلَا بِالتَّسْلِيمِ لِأَجْلِ التَّصَرُّفِ؛ لِأَنَّهُ إِيدَاعٌ وَهُوَ يُمْلُكُ ذَلِكَ وَلَا بِالتَّصَرُّفِ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ فِيهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ، اهـ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْهَا أَنَّ الْمُضَارِبَ وَكِيلٌ؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ نَفْسَهُ تَوْكِيلٌ. وَلَا كَلَامَ فِي أَنَّ الْمُضَارِبَ وَكِيلٌ بِحَكَمِ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ، وَأَمَّا أَنَّهُ وَكِيلٌ بِحُكْمِ الدَّفْعِ فَقَطْ فَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ.
(قَوْلُهُ: وَهَذَا إِذَا كَانَتِ الْمُضَارَبَةُ صَحِيحَةٌ). قَالَ فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجُ الدِّرَايَةِ: أَيْ: الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا عِنْدَ الرِّبْحِ أَوِ الْعَمَلِ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِيمَا إِذَا كَانَتِ الْمُضَارَبَةُ صَحِيحَةٌ. وَقَالَ فِي الْعِنَايَةِ وَشَرْحِ الْعَيْنِيِّ، أَيْ: وُجُوبُ الضَّمَانِ عَلَى الْأَوَّلِ أَوْ عَلَيْهِمَا بِالرِّبْحِ أَوِ الْعَمَلِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا إِذَا كَانَتِ الْمُضَارَبَةُ صَحِيحَةً.
أَقُولُ: لَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِهَذَا هَاهُنَا وُجُوبُ الضَّمَانِ عَلَيْهِمَا، أَيْ: عَلَى الْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي، بَلْ كَوْنُ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِهِ هُنَا هُوَ الضَّمَانُ عَلَى الْأَوَّلِ مُتَعَيِّنٌ؛ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْكِتَابِ هُوَ ضَمَانٌ الْأَوَّلُ لَا غَيْرَ. وَلَمْ يَمُرْ مِنَ الْمُصَنَّفِ إِلَى الْآنِ شَيْءٌ يُشْعِرُ بِضَمَانِ الثَّانِي أَيْضًا فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنَّ يَجْعَلَ كَلِمَةَ هَذَا هَاهُنَا إِشَارَةً إِلَى الضَّمَانِ عَلَيْهِمَا. وَشَأْنُ اسْمِ الْإِشَارَةِ أَنْ يُشَارَ بِهِ إِلَى الْمَحْسُوسِ الْمُشَاهَدِ أَوْ مَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَحْسُوسِ الْمُشَاهَدِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَحَلِّهِ. وَوُجُوبُ الضَّمَانِ عَلَى الثَّانِي مِمَّا لَمْ تَشُمُّ رَائِحَتَهُ قَطُّ إِلَى الْآنِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَجْعَلَ بِمَنْزِلَةِ الْمَحْسُوسِ الْمُشَاهَدِ، عَلَى أَنَّ الْمُصَنَّفَ هَاهُنَا بِصَدَدِ بَيَانِ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ مِنْ ضَمَانِ الْأَوَّلِ لِرَبِّ الْمَالِ، وَأَمَّا أَنَّ الثَّانِي هَلْ يُضَمَّنُ أَيْضًا أَمْ لَا فَيُبَيِّنُهُ بَعْدَ مُفَصَّلًا