للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَلَوْ أَعْتَقَ مَا فِي بَطْنِهَا ثُمَّ وَهَبَهَا جَازَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ الْجَنِينُ عَلَى مِلْكِهِ فَأَشْبَهَ الِاسْتِثْنَاءَ، وَلَوْ دَبَّرَ مَا فِي بَطْنِهَا ثُمَّ وَهَبَهَا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ بَقِيَ عَلَى مِلْكِهِ فَلَمْ يَكُنْ شَبِيهَ الِاسْتِثْنَاءِ،

الْجَارِيَةِ يَتَنَاوَلُ الْحَمْلَ تَبَعًا لِكَوْنِهِ جُزْءًا مِنْهَا، فَلَمَّا اسْتَثْنَى الْحَمْلَ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ مُخَالِفًا لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ وَهُوَ مَعْنَى الشَّرْطِ الْفَاسِدِ، وَالْهِبَةُ لَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي بَابِ الْهِبَةِ مُعَلَّقٌ بِفِعْلٍ حِسِّيٍّ وَهُوَ الْقَبْضُ، وَالْقَبْضُ لَا يَفْسُدُ بِالشُّرُوطِ، وَإِنَّمَا تُؤَثِّرُ الشُّرُوطُ فِي الْعُقُودِ الشَّرْعِيَّةِ. هَذَا زُبْدَةُ مَا فِي الشُّرُوحِ.

وَذَكَرَ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ دَلِيلًا آخَرَ عَلَى بُطْلَانِ الِاسْتِثْنَاءِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ مَا فِي الْكِتَابِ حَيْثُ قَالَ: وَلِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ تَصَرُّفٌ فِي اللَّفْظِ فَلَا يَعْمَلُ إلَّا فِي الْمَلْفُوظِ، وَالْحَمْلُ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَائِهَا فَيَكُونُ فِي حُكْمِ الْأَوْصَافِ، وَاللَّفْظُ يُرَدُّ عَلَى الذَّاتِ لَا عَلَى الْأَوْصَافِ فَلَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَلْفُوظٍ اهـ. أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ، إذْ لَوْ صَحَّ هَذَا الدَّلِيلُ لَدَلَّ عَلَى بُطْلَانِ اسْتِثْنَاءِ الْحَمْلِ فِي الْوَصِيَّةِ أَيْضًا لِجَرَيَانِهِ فِيهِ بِعَيْنِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ قَطْعًا عَلَى مَا صَرَّحُوا بِهِ قَاطِبَةً، وَسَيَأْتِي فِي وَصَايَا هَذَا الْكِتَابِ أَنَّ مَنْ أَوْصَى بِجَارِيَةٍ إلَّا حَمْلَهَا صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ، وَالِاسْتِثْنَاءُ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْجَارِيَةِ لَا يَتَنَاوَلُ الْحَمْلَ لَفْظًا وَلَكِنَّهُ يَسْتَحِقُّ بِالْإِطْلَاقِ تَبَعًا، فَإِذَا أَفْرَدَ الْأُمَّ بِالْوَصِيَّةِ صَحَّ إفْرَادُهَا؛ وَلِأَنَّهُ يَصِحُّ إفْرَادُ الْحَمْلِ بِالْوَصِيَّةِ فَجَازَ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْهُ. اهـ. وَقَالَ فِي الْكَافِي هُنَاكَ: فَإِنْ قِيلَ: إذَا لَمْ يَتَنَاوَلْهُ اللَّفْظُ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي الْمَلْفُوظِ. قُلْنَا: يَكْفِي لِصِحَّةِ التَّزَيِّي بِزِيِّهِ كَمَا فِي اسْتِثْنَاءِ إبْلِيسَ، عَلَى أَنَّ صِحَّتَهُ لَا تَفْتَقِرُ إلَى التَّنَاوُلِ اللَّفْظِيِّ بِدَلِيلِ صِحَّةِ اسْتِثْنَاءِ قَفِيزِ حِنْطَةٍ مِنْ أَلْفِ دِرْهَمٍ. اهـ. فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ مَا فِي الْكِفَايَةِ هَاهُنَا، وَطُولِبَ بِالْفَرْقِ هَاهُنَا بَيْنَ الْحَمْلِ وَبَيْنَ الصُّوفِ عَلَى ظَهْرِ الْغَنَمِ، وَاللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ، فَإِنَّهُ إذَا وَهَبَ لِرَجُلٍ عَلَى ظَهْرِ الْغَنَمِ مِنْ الصُّوفِ أَوْ مَا فِي الضَّرْعِ مِنْ اللَّبَنِ وَأَمَرَهُ بِجَزِّ الصُّوفِ وَحَلْبِ اللَّبَنِ، وَقَبَضَ الْمَوْهُوبُ لَهُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ جَائِزٌ لَهُ اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْحَمْلِ لَا يَجُوزُ.

وَأُجِيبَ بِأَنَّ مَا فِي الْبَطْنِ لَيْسَ بِمَالٍ أَصْلًا وَلَا يُعْلَمُ وُجُودُهُ حَقِيقَةً. بِخِلَافِ الصُّوفِ وَاللَّبَنِ، وَبِأَنَّ إخْرَاجَ الْوَلَدِ مِنْ الْبَطْنِ لَيْسَ إلَيْهِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْعَلَ فِي ذَلِكَ نَائِبًا عَنْ الْوَاهِبِ، بِخِلَافِ الْجِزَازِ فِي الصُّوفِ، وَالْحَلْبِ فِي اللَّبَنِ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ، وَعَزَاهُ فِي النِّهَايَةِ إلَى الْمَبْسُوطِ. أَقُولُ: فِي كُلٍّ مِنْ وَجْهَيْ الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ نَظَرٌ. أَمَّا فِي وَجْهِهِ الْأَوَّلِ فَلِأَنَّ مَا فِي الْبَطْنِ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَالًا أَصْلًا، وَلَمْ يُعْلَمْ وُجُودُهُ حَقِيقَةً لَمَا صَحَّ إعْتَاقُهُ وَتَدْبِيرُهُ وَإِيصَاؤُهُ، وَقَدْ صَحَّ كُلٌّ مِنْهَا عَلَى مَا نَصُّوا عَلَيْهِ فِي مَوَاضِعِهِ، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْأَوَّلَيْنِ أَيْضًا الْمَسْأَلَتَانِ الْآتِيَتَانِ هَاهُنَا، وَهُمَا قَوْلُهُ: وَلَوْ أَعْتَقَ مَا فِي بَطْنِهَا ثُمَّ وَهَبَهَا جَازَ، وَقَوْلُهُ وَلَوْ دَبَّرَ مَا فِي بَطْنِهَا ثُمَّ وَهَبَهَا لَمْ يَجُزْ. وَأَمَّا فِي وَجْهِهِ الثَّانِي فَلِأَنَّ كَوْنَ إخْرَاجِ الْوَلَدِ لَيْسَ إلَيْهِ إنَّمَا يَقْتَضِي عَدَمَ صِحَّةِ الْهِبَةِ فِيمَا إذَا أَمَرَهُ الْوَاهِبُ بِقَبْضِ الْحَمْلِ فِي الْحَالِ، وَأَمَّا فِيمَا إذَا أَمَرَهُ الْوَاهِبُ بِقَبْضِهِ بَعْدَ الْوِلَادَةِ فَلَا، إذْ يُمْكِنُ لَهُ حِينَئِذٍ أَنْ يَقْبِضَهُ بَعْدَ الْوِلَادَةِ أَصَالَةً بِدُونِ النِّيَابَةِ عَنْ الْوَاهِبِ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السِّرُّ فِي أَنْ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إنْ أَمَرَهُ فِي الْحَمْلِ بِقَبْضِهِ بَعْدَ الْوِلَادَةِ فَقَبَضَ يَجُوزُ اسْتِحْسَانًا كَمَا فِي الصُّوفِ، وَاللَّبَنِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ فِي أَوَّلِ الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ.

وَقَالَ: وَلَكِنَّ الْأَصَحَّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي الْحَمْلِ أَصْلًا؛ لِأَنَّ مَا فِي الْبَطْنِ لَيْسَ بِمَالٍ إلَخْ. ثُمَّ أَقُولُ: عَلَى فَرْضِ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ الْمَذْكُورُ بِوَجْهَيْهِ سَالِمًا عَمَّا ذَكَرْنَاهُ لَا يَنْدَفِعُ بِهِ السُّؤَالُ الْمَزْبُورُ؛ لِأَنَّ مَوْرِدَ ذَلِكَ السُّؤَالِ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ، وَالْهِبَةُ لَا تَعْمَلُ فِي الْحَمْلِ لِكَوْنِهِ وَصْفًا عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي الْبُيُوعِ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ الصُّوفَ عَلَى ظَهْرِ الْغَنَمِ، وَاللَّبَنَ فِي الضَّرْعِ أَيْضًا مِنْ أَوْصَافِ الْحَيَوَانِ كَالْحَمْلِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي بَابِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ، فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَمْلِ وَبَيْنَ الصُّوفِ، وَاللَّبَنِ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ حَتَّى تَصِحَّ الْهِبَةُ فِيمَا دُونَ الْحَمْلِ، وَالْجَوَابُ الْمَذْكُورُ إنَّمَا يُفِيدُ الْفَرْقَ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ مِنْ حَيْثِيَّةٍ أُخْرَى، وَذَا لَا يُجْدِي شَيْئًا يَنْدَفِعُ بِهِ مُطَالَبَةُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مِنْ الْحَيْثِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْكِتَابِ فَلَا يَتِمُّ الْمَطْلُوبُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>