فَصْلٌ فِي الصَّدَقَةِ
قَالَ: (وَالصَّدَقَةُ كَالْهِبَةِ لَا تَصِحُّ إلَّا بِالْقَبْضِ)؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ كَالْهِبَةِ (فَلَا تَجُوزُ فِي مُشَاعٍ يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ) لِمَا بَيَّنَّا فِي الْهِبَةِ (وَلَا رُجُوعَ فِي الصَّدَقَةِ)؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الثَّوَابُ وَقَدْ حَصَلَ. وَكَذَا إذَا تَصَدَّقَ عَلَى غَنِيٍّ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَقْصِدُ بِالصَّدَقَةِ عَلَى الْغَنِيِّ الثَّوَابَ. وَكَذَا إذَا وَهَبَ الْفَقِيرَ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الثَّوَابُ وَقَدْ حَصَلَ.
لِأَجْلِ مَا عَنْهُ مَنْدُوحَةٌ لَيْسَ بِمُسْتَحْسَنٍ. إلَى هُنَا كَلَامُهُ.
أَقُولُ: لَا شَكَّ أَنَّ الْمُصَنِّفَ يُشِيرُ بِقَوْلِهِ الْمَذْكُورِ إلَى أَنَّ أَبَا يُوسُفَ قَالَ بِجَوَازِهَا لَا بِهَذَا التَّفْسِيرِ بَلْ بِتَفْسِيرٍ آخَرَ. وَلَكِنْ لَيْسَ مُرَادُهُ بِتَفْسِيرٍ آخَرَ مَا ذَكَرَهُ الشَّارِحُ الْمَزْبُورُ وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَهَا مِنْ الرَّقَبَةِ حَتَّى يَتَّجِهَ عَلَيْهِ أَنَّ اشْتِقَاقَ الرُّقْبَى مِنْ الرَّقَبَةِ مِمَّا لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ، بَلْ مُرَادُهُ بِذَلِكَ مَا نَبَّهَ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْكَافِي وَجُمْهُورُ الشُّرَّاحِ بِقَوْلِهِمْ: وَحَاصِلُ الِاخْتِلَافِ بَيْنَهُمْ رَاجِعٌ إلَى تَفْسِيرِ الرُّقْبَى مَعَ اتِّفَاقِهِمْ أَنَّهَا مِنْ الْمُرَاقَبَةِ. فَحَمَلَ أَبُو يُوسُفَ هَذَا اللَّفْظَ عَلَى أَنَّهُ تَمْلِيكٌ لِلْحَالِ مَعَ انْتِظَارِ الْوَاهِبِ فِي الرُّجُوعِ، فَالتَّمْلِيكُ جَائِزٌ وَانْتِظَارُ الرُّجُوعِ بَاطِلٌ كَمَا فِي الْعُمْرَى وَقَالَا: الْمُرَاقَبَةُ فِي نَفْسِ التَّمْلِيكِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الرُّقْبَى هَذِهِ الدَّارُ لِآخِرِنَا مَوْتًا كَأَنَّهُ يَقُولُ: أُرَاقِبُ مَوْتَكَ وَتُرَاقِبُ مَوْتِي فَإِنْ مِتَّ قَبْلَك فَهِيَ لَكَ وَإِنْ مِتَّ قَبْلِي فَهِيَ لِي، فَكَانَ هَذَا تَعْلِيقَ التَّمْلِيكِ ابْتِدَاءً بِالْخَطَرِ، وَهُوَ مَوْتُ الْمَالِكِ قَبْلَهُ وَذَا بَاطِلٌ. انْتَهَى قَوْلُهُمْ.
فَعَلَى هَذَا لَا يَتَّجِهُ عَلَيْهِ أَصْلًا مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بِقَوْلِهِ: وَقِيلَ عَلَيْهِ إنَّ اشْتِقَاقَ الرُّقْبَى مِنْ الرَّقَبَةِ مِمَّا لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ إلَخْ كَمَا لَا يَخْفَى. ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ غَايَةِ الْبَيَانِ قَالَ فِي هَذَا الْمَقَامِ: وَعِنْدِي قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَصَحُّ، إذْ غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُقَالَ الشَّرْطُ فَاسِدٌ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ فَسَادِ الشَّرْطِ فَسَادُ الْهِبَةِ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ لَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ كَمَا فِي الْعُمْرَى انْتَهَى. أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ إنَّمَا لَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ إذَا لَمْ يَمْنَعْ الشَّرْطُ ثُبُوتَ التَّمْلِيكِ ابْتِدَاءً، وَأَمَّا إذَا مَنَعَ ذَلِكَ فَلَا مَجَالَ لَأَنْ لَا تَبْطُلَ الْهِبَةُ بِهِ لِضَرُورَةِ امْتِنَاعِ تَحَقُّقِ الْهِبَةِ بِدُونِ تَحَقُّقِ التَّمْلِيكِ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ يَمْنَعُ الرُّقْبَى ثُبُوتُ التَّمْلِيكِ ابْتِدَاءً عَلَى تَفْسِيرِهِمَا إيَّاهَا كَمَا تَحَقَّقْتُهُ آنِفًا وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْكَافِي حَيْثُ قَالَ: وَصَحَّ الْعُمْرَى لِلْمُعَمَّرِ لَهُ حَالَ حَيَاتِهِ وَلِوَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ، وَلَوْ قَالَ دَارِي لَكَ رُقْبَى أَوْ حَبِيسٌ فَهُوَ بَاطِلٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute