للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ إلَى الْفِقْهِ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ لَا يَنْعَقِدُ عَلَى إتْلَافِ الْأَعْيَانِ مَقْصُودًا، كَمَا إذَا اسْتَأْجَرَ بَقَرَةً؛ لِيَشْرَبَ لَبَنَهَا. وَسَنُبَيِّنُ الْعُذْرَ عَنْ الْإِرْضَاعِ بِلَبَنِ الشَّاةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَكَذَا فِي الْمَبْتُوتَةِ فِي رِوَايَةِ النَّهْيِ فَتَدَبَّرْ. (قَوْلُهُ: وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ إلَى الْفِقْهِ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ لَا يَنْعَقِدُ عَلَى إتْلَافِ الْأَعْيَانِ مَقْصُودًا إلَخْ) الْقَوْلُ الْأَوَّلُ اخْتِيَارُ صَاحِبَيْ الذَّخِيرَةِ وَالْإِيضَاحِ، وَاخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ كَمَا تَرَى. وَالْقَوْلُ الثَّانِي اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ حَيْثُ قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: وَزَعَمَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ الْمَنْفَعَةُ، وَهُوَ الْقِيَامُ بِخِدْمَةِ الصَّبِيِّ، وَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ، وَأَمَّا اللَّبَنُ فَتَبَعٌ فِيهِ؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ عَيْنٌ وَالْعَيْنُ لَا تُسْتَحَقُّ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ كَلَبَنِ الْأَنْعَامِ. ثُمَّ قَالَ: وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْعَقْدَ يَرِدُ عَلَى اللَّبَنِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ، وَهُوَ مَنْفَعَةُ الثَّدْيِ، وَمَنْفَعَةُ كُلِّ عُضْوٍ عَلَى حَسْبِ مَا يَلِيقُ بِهِ، هَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فَإِنَّهُ قَالَ: اسْتِحْقَاقُ لَبَنِ الْآدَمِيَّةِ بَعْدَ الْإِجَارَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَجَوَازُ بَيْعِ لَبَنِ الْأَنْعَامِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِحْقَاقُهُ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ. انْتَهَى كَلَامُهُ.

وَتَعَجَّبَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ مِنْ اخْتِيَارِ الْمُصَنِّفِ مَا أَعْرَضَ عَنْهُ الْإِمَامُ الْكَبِيرُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ بَعْدَ أَنْ رَأَى مِثْلَ هَذَا الدَّلِيلِ الْوَاضِحِ وَالرِّوَايَةِ الْمَنْصُوصَةِ عَنْ مُحَمَّدٍ . وَرَدَّ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ أَنْ رَوَى تَعَجُّبَهُ مِنْ ذَلِكَ حَيْثُ قَالَ: وَهُوَ تَقْلِيدٌ صِرْفٌ؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ لَيْسَ بِوَاضِحٍ؛ لِأَنَّ مَدَارَهُ قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ، بَلْ الْمَقْصُودُ هُوَ الْإِرْضَاعُ وَانْتِظَامُ أَمْرِ مَعَاشِ الصَّبِيِّ عَلَى وَجْهٍ خَاصٍّ يَتَعَلَّقُ بِأُمُورٍ وَوَسَائِطَ مِنْهَا اللَّبَنُ فَجَعَلَ الْعَيْنَ الْمَرْئِيَّةَ مَنْفَعَةً. وَنَقْضُ الْقَاعِدَةِ الْكُلِّيَّةِ أَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ عُقِدَ عَلَى إتْلَافِ الْمَنَافِعِ مَعَ الْغِنَى عَنْ ذَلِكَ بِمَا هُوَ وَجْهٌ صَحِيحٌ لَيْسَ بِوَاضِحٍ، وَلَا يَتَشَبَّثُ لَهُ بِمَا رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: اسْتِحْقَاقُ لَبَنِ الْآدَمِيَّةِ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَجَوَازُ بَيْعِ لَبَنِ الْأَنْعَامِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِحْقَاقُهُ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَلَئِنْ كَانَ فَنَحْنُ مَا مَنَعْنَا أَنْ يُسْتَحَقَّ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ. وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي اسْتِحْقَاقِهِ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ مَقْصُودًا أَوْ تَبَعًا، وَلَيْسَ فِي كَلَامِ مُحَمَّدٍ مَا يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ.

أَقُولُ: خَاتِمَةُ كَلَامِهِ لَيْسَتْ بِصَحِيحَةٍ، إذْ فِي كَلَامِ مُحَمَّدٍ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اسْتِحْقَاقَهُ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ مَقْصُودًا لَا مَحَالَةَ؛ لِأَنَّهُ قَالَ اسْتِحْقَاقُ لَبَنِ الْآدَمِيَّةِ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِهِ إلَّا بِأَنْ يَكُونَ اسْتِحْقَاقُهُ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ مَقْصُودًا، أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّبْغَ فِي الثَّوْبِ يُسْتَحَقُّ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ تَبَعًا مَعَ أَنَّهُ مِمَّا يَجُوزُ بَيْعُهُ قَطْعًا. ثُمَّ إنَّ لِلشَّارِحِ الْعَيْنِيِّ هَاهُنَا كَلِمَاتٍ كَثِيرَةً مُزَخْرَفَةً ذَكَرَهَا تَقْوِيَةً لِمَا ذَهَبَ إلَيْهِ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ وَرَدًّا عَلَى صَاحِبِ الْعِنَايَةِ مَا ذَكَرَهُ فِي رَدِّهِ عَلَى صَاحِبِ النِّهَايَةِ، فَإِنْ ذَكَرْنَا كُلَّهَا وَبَيَّنَّا حَالَهَا الْتَزَمْنَا الْإِطْنَابَ بِلَا طَائِلٍ، وَلَكِنْ لَا عَلَيْنَا أَنْ نَذْكُرَ نُبَذًا مِنْ أَوَّلِهَا وَآخِرِهَا، قَالَ بَعْدَ نَقْلِ مَا فِي النِّهَايَةِ وَالْعِنَايَةِ: قُلْت قَوْلُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ هُوَ الْأَقْرَبُ إلَى الْفِقْهِ؛ لِأَنَّ الْأَعْيَانَ الَّتِي تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا مَعَ بَقَاءِ أَصْلِهَا بِمَنْزِلَةِ الْمَنَافِعِ فَيَجُوزُ إجَارَتُهَا كَالْعَارِيَّةِ لِمَنْ يَنْتَفِعُ بِالْمَتَاعِ ثُمَّ يَرُدُّهُ، وَالْعَرِيَّةِ لِمَنْ يَأْكُلُ ثَمَرَةَ الشَّجَرَةِ ثُمَّ يَرُدُّهَا، وَالْمِنْحَةِ لِمَنْ يَشْرَبُ لَبَنَ الشَّاةِ ثُمَّ يَرُدُّهَا، ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِ كَلَامِهِ: وَكَيْفَ يَقُولُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ لِمَا رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ غَيْرُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَهُوَ مِنْ كِبَارِ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ وَأَبِي يُوسُفَ الْقَاضِي، وَكَانَ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْكِبَارِ الصَّالِحِينَ وَكَانَ يُصَلِّي كُلَّ يَوْمٍ مِائَتَيْ رَكْعَةً. انْتَهَى كَلَامُهُ.

أَقُولُ: كُلُّ مَا قَالَهُ فِي الْأَوَّلِ وَالْآخِرِ فَاسِدٌ. أَمَّا مَا قَالَهُ فِي الْأَوَّلِ فَلِأَنَّ مَعْنَى حُدُوثِ الْمَنَافِعِ شَيْئًا فَشَيْئًا أَنْ لَا يَكُونَ لَهَا بَقَاءٌ أَصْلًا بِنَاءً عَلَى عَدَمِ

<<  <  ج: ص:  >  >>