للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَلِأَنَّ التَّنَاصُرَ بِهِ فَيَعْقِلُهُ وَقَدْ أَحْيَاهُ مَعْنًى بِإِزَالَةِ الرِّقِّ عَنْهُ فَيَرِثُهُ وَيَصِيرُ الْوَلَاءُ كَالْوِلَادِ، وَلِأَنَّ الْغُنْمَ بِالْغُرْمِ، وَكَذَا الْمَرْأَةُ تَعْتِقُ لِمَا رَوَيْنَا

فَإِنْ قِيلَ: الِاسْتِدْلَال بِهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يُنَاقِضُ جَعْلَ الْعِتْقِ سَبَبًا لِأَنَّ أَعْتَقَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْإِعْتَاقِ.

فَالْجَوَابُ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الِاشْتِقَاقِ هُوَ مَصْدَرُ الثُّلَاثِيِّ وَهُوَ الْعِتْقُ انْتَهَى كَلَامُهُ. أَقُولُ: فِي جَوَابِهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ كَوْنَ مَصْدَرِ الثُّلَاثِيِّ أَصْلًا فِي الِاشْتِقَاقِ لَا يَسْتَدْعِي كَوْنَهُ أَصْلًا فِي الْعِلِّيَّةِ لِتَرَتُّبِ الْحُكْمِ عَلَى الْمُشْتَقِّ مِنْ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ كَمَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ مَصَادِرِ الْمَزِيدَاتِ يَصْلُحُ عِلَّةً لِمَا لَا يَصْلُحُ لَهُ مَصَادِرُ الثُّلَاثِيِّ؛ أَلَا يُرَى أَنَّ الْإِعْتَاقَ مَثَلًا يَكُونُ عِلَّةً لِلْعِتْقِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْعِتْقَ لَا يَكُونُ عِلَّةً لِنَفْسِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الصُّوَرِ، وَمَدَارُ السُّؤَالِ عَلَى الْعِلِّيَّةِ فَلَا يَدْفَعُهُ الْجَوَابُ الْمَزْبُورُ (قَوْلُهُ وَلِأَنَّ التَّنَاصُرَ بِهِ فَيَعْقِلُهُ وَقَدْ أَحْيَاهُ مَعْنًى بِإِزَالَةِ الرِّقِّ عَنْهُ فَيَرِثُهُ وَيَصِيرُ الْوَلَاءُ كَالْوِلَادِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ: قَوْلُهُ وَلِأَنَّ التَّنَاصُرَ بِهِ: أَيْ بِسَبَبِ الْإِعْتَاقِ دَلِيلٌ عَلَى الْأَثَرَيْنِ الثَّابِتَيْنِ بِهِ وَهُوَ الْعَقْلُ وَالْمِيرَاثُ، وَتَقْرِيرُهُ الْمَوْلَى يَنْتَصِرُ بِمَوْلَاهُ بِسَبَبِ الْعِتْقِ، وَمَنْ يَنْتَصِرُ بِشَخْصٍ يَعْقِلُهُ لِأَنَّ الْغُنْمَ بِالْغُرْمِ فَحَيْثُ يَغْنَمُ بِنَصْرِهِ يَغْنَمُ عَقْلَهُ، وَالْمَوْلَى أَحْيَاهُ مَعْنًى بِإِزَالَةِ الرِّقِّ عَنْهُ لِأَنَّ الرَّقِيقَ هَالِكٌ حُكْمًا؛ أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ كَثِيرٌ مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَعَلَّقَتْ بِالْإِحْيَاءِ نَحْوِ الْقَضَاءِ وَالشَّهَادَةِ وَالسَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ وَالْخُرُوجِ إلَى الْعِيدَيْنِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، وَبِالْإِعْتَاقِ تَثْبُتُ هَذِهِ الْأَحْكَامُ فِي حَقِّهِ فَكَانَ إحْيَاءً مَعْنًى، وَمَنْ أَحْيَا غَيْرَهُ مَعْنًى وَرِثَهُ كَالْوَالِدِ فَيَصِيرُ الْوَلَاءُ كَالْوِلَادِ وَالْوِلَادُ يُوجِبُ الْإِرْثَ فَكَذَلِكَ الْوَلَاءُ اهـ كَلَامُهُ.

أَقُولُ: فِي أَوَائِلِ تَقْرِيرِهِ الدَّلِيلَ خَلَلٌ، لِأَنَّهُ اعْتَبَرَ النَّصْرَ فِي جَانِبِ الْمَوْلَى بِمَعْنَى الْمُعْتَقِ بِالْفَتْحِ، وَالِانْتِصَارَ فِي جَانِبِ الْمَوْلَى بِمَعْنَى الْمُعْتِقِ بِالْكَسْرِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ تَأَمَّلَ فِي بَسْطِ كَلَامِهِ سِيَّمَا فِي قَوْلِهِ فَحَيْثُ يَغْنَمُ بِنَصْرِهِ يَغْرَمُ عَقْلَهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْعَكْسِ، إذْ الْمُعْتَقُ بِالْفَتْحِ يَنْتَصِرُ بِنَصْرِ الْمُعْتِقِ بِالْكَسْرِ حَيْثُ يَنَالُ شَرَفَ الْحُرِّيَّةِ بِسَبَبِ إعْتَاقِ ذَلِكَ إيَّاهُ فَهُوَ الْغَانِمُ، وَأَيْضًا قَدْ اسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَنْ يَنْتَصِرُ بِشَخْصٍ يَعْقِلُهُ بِأَنَّ الْغُنْمَ بِالْغُرْمِ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّهُ إنْ رَجَعَ ضَمِيرُ الْفَاعِلِ الْمُسْتَتِرِ فِي يَعْقِلُهُ إلَى مَنْ يَنْتَصِرُ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ سَوْقِ كَلَامِهِ لَمْ يَصِحَّ الْمُدَّعَى فِي نَفْسِهِ وَمَعَ ذَلِكَ لَا يُطَابِقُهُ الدَّلِيلُ الْمَذْكُورُ.

أَمَّا عَدَمُ صِحَّةِ الْمُدَّعَى فِي نَفْسِهِ فَلِأَنَّ الْعَاقِلَ فِي الشَّرْعِ هُوَ النَّاصِرُ لَا الْمُنْتَصِرُ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي مَوْضِعِهِ.

وَأَمَّا عَدَمُ مُطَابَقَةِ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ إيَّاهُ فَلِأَنَّ الْمُدَّعَى حِينَئِذٍ وُجُوبُ الْعَقْلِ الَّذِي هُوَ الْغُرْمُ بِالِانْتِصَارِ الَّذِي هُوَ الْغُنْمُ، وَالدَّلِيلُ الْمَذْكُورُ إنَّمَا يُفِيدُ عَكْسَ ذَلِكَ، فَالدَّلِيلُ الْمُطَابِقُ لَهُ عَكْسُ مَا ذَكَرَ وَهُوَ الْغُرْمُ بِالْغُنْمِ كَمَا هُوَ نَظْمُ الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَمَرَّ فِي هَذَا الْكِتَابِ أَيْضًا فِي بَابِ النَّفَقَةِ مِنْ كِتَابِ الطَّلَاقِ، وَإِنْ رَجَعَ ذَلِكَ الضَّمِيرُ إلَى شَخْصٍ فِي قَوْلِهِ مَنْ يَنْتَصِرُ بِشَخْصٍ لَمْ يَصِحَّ الدَّلِيلُ الْمَذْكُورُ أَصْلًا لِأَنَّ الْغَانِمَ هُوَ الْمُنْتَصِرُ بِشَخْصٍ وَالْغَارِمُ وَهُوَ ذَلِكَ الشَّخْصُ النَّاصِرُ. فَلَمْ يَجْتَمِعْ الْغُنْمُ وَالْغُرْمُ فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ حَتَّى يَصِحَّ الِاسْتِدْلَال بِأَنَّ الْغُنْمَ بِالْغُرْمِ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ غُنْمَ شَخْصٍ لَا يَصِيرُ سَبَبًا لِغُرْمِ شَخْصٍ آخَرَ وَلَا الْعَكْسُ.

ثُمَّ أَقُولُ: الصَّوَابُ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ وَلِأَنَّ التَّنَاصُرَ بِهِ فَيَعْقِلُهُ هُوَ أَنَّ الْمُعْتَقَ بِالْفَتْحِ يَنْتَصِرُ بِنَصْرِ الْمُعْتِقِ بِالْكَسْرِ بِسَبَبِ إعْتَاقِهِ إيَّاهُ فَيَعْقِلُهُ: أَيْ فَيَعْقِلُ الْمُعْتِقُ بِالْكَسْرِ الْمُعْتَقَ بِالْفَتْحِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَدَارَ الْعَقْلِ أَنْ يَكُونَ نَاصِرًا كَمَا تَقَرَّرَ فِي كِتَابِ الْمَعَاقِلِ حَيْثُ صَرَّحُوا فِيهِ بِأَنَّ وَجْهَ ضَمِّ الْعَاقِلَةِ إلَى الْجَانِي فِي الدِّيَةِ دُونَ غَيْرِهِمْ هُوَ أَنَّ الْجَانِيَ إنَّمَا قَصْرُ الْقُوَّةِ فِيهِ وَتِلْكَ بِأَنْصَارِهِ وَهُمْ الْعَاقِلَةُ فَكَانُوا هُمْ الْمُقَصِّرِينَ فِي تَرْكِهِمْ مُرَاقَبَتَهُ فَخُصُّوا بِالضَّمِّ إلَيْهِ (قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الْغُنْمَ بِالْغُرْمِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الْغُنْمَ بِالْغُرْمِ يَخْدُمُ الْوَجْهَيْنِ فَلِهَذَا أَخَّرَهُ اهـ.

<<  <  ج: ص:  >  >>