لِأَنَّ الْوَكِيلَ أَصِيلٌ فِي الْحُقُوقِ وَقَبْضِ الثَّمَنِ مِنْهَا وَالْكَفَالَةُ تُوثَقُ بِهِ، وَالِارْتِهَانُ وَثِيقَةٌ لِجَانِبِ الِاسْتِيفَاءِ فَيَمْلِكُهُمَا بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِقَبْضِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ يَفْعَلُ نِيَابَةً وَقَدْ أَنَابَهُ فِي قَبْضِ الدَّيْنِ دُونَ الْكَفَالَةِ وَأَخْذِ الرَّهْنِ وَالْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ يَقْبِضُ أَصَالَةً وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الْمُوَكِّلُ حَجْرَهُ عَنْهُ.
وَتَبِعَهُ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ. أَقُولُ: لَا وَجْهَ لَهُ أَصْلًا، إذْ الضَّمَانُ عَلَى الْكَفِيلِ أَمْرٌ مُقَرَّرٌ لَيْسَ بِمَحَلِّ الشَّكِّ فَضْلًا عَنْ الْحُكْمِ بِخِلَافِهِ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي عَدَمِ الضَّمَانِ عَلَى الْوَكِيلِ إذْ هُوَ مَحَلُّ شُبْهَةٍ فَهُوَ مَوْرِدُ الْبَيَانِ؛ أَلَا يَرَى قَوْلَ الْمُصَنِّفِ فِي تَعْلِيلِ الْمَسْأَلَةِ (لِأَنَّ الْوَكِيلَ أَصِيلٌ فِي الْحُقُوقِ) أَيْ فِي حُقُوقِ الْعَقْدِ (وَقَبْضِ الثَّمَنِ مِنْهَا) أَيْ مِنْ الْحُقُوقِ (وَالْكَفَالَةُ تُوثَقُ بِهِ) أَيْ بِالثَّمَنِ (وَالِارْتِهَانُ وَثِيقَةٌ لِجَانِبِ الِاسْتِيفَاءِ) أَيْ لِجَانِبِ اسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ فَقَدْ ازْدَادَ بِالْكَفَالَةِ وَالرَّهْنِ مَعْنَى الْوَثِيقَةِ فَكَانَا مُؤَكَّدَيْنِ لِحَقِّ اسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ (فَيَمْلِكُهُمَا) أَيْ فَيَمْلِكُهُمَا الْوَكِيلُ، فَإِذَا ضَاعَ الرَّهْنُ فِي يَدِهِ لَمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الرَّهْنِ كَاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ بَدَلُهُ أُقِيمَ مَقَامَهُ. وَلَوْ هَلَكَ الثَّمَنُ فِي يَدِهِ هَلَكَ أَمَانَةً فَكَذَلِكَ الرَّهْنُ. وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْكَفَالَةِ هَاهُنَا الْحَوَالَةُ؛ لِأَنَّ التَّوْيِ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْكَفَالَةِ؛ لِأَنَّ الْأَصِيلَ لَا يَبْرَأُ. وَقِيلَ بَلْ هِيَ عَلَى حَقِيقَتِهَا، وَالتَّوَى فِيهَا بِأَنْ يَمُوتَ الْكَفِيلُ وَالْأَصِيلُ مُفْلِسَيْنِ، وَقِيلَ التَّوَى فِيهَا بِأَنْ يُرْفَعَ الْأَمْرُ إلَى حَاكِمٍ يَرَى بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ فَيَحْكُمَ عَلَى مَا يَرَاهُ أَوْ يَمُوتَ الْكَفِيلُ مُفْلِسًا، كَذَا فِي الشُّرُوحِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْلَ الثَّالِثَ هُوَ الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ صَاحِبُ الْكَافِي حَيْثُ قَالَ: فَتَوْيِ الْمَالِ عَلَى الْكَفِيلِ بِأَنْ رَفَعَ الْأَمْرَ إلَى قَاضٍ يَرَى بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ بِنَفْسِ الْكَفَالَةِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ فَيَحْكُمُ بِبَرَاءَةِ الْأَصِيلِ فَتَوْيِ الْمَالِ عَلَى الْكَفِيلِ انْتَهَى.
وَإِنَّ الْإِمَامَ الزَّيْلَعِيَّ قَدْ اخْتَارَ ذَلِكَ، وَزَيَّفَ الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ حَيْثُ قَالَ فِي التَّبْيِينِ: وَفِي النِّهَايَةِ الْمُرَادُ بِالْكَفَالَةِ هَاهُنَا الْحَوَالَةُ؛ لِأَنَّ التَّوَى لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْكَفَالَةِ، وَقِيلَ الْكَفَالَةُ عَلَى حَقِيقَتِهَا، فَإِنَّ التَّوَى يَتَحَقَّقُ فِيهَا بِأَنْ مَاتَ الْكَفِيلُ وَالْمَكْفُولُ عَنْهُ مُفْلِسَيْنِ، وَهَذَا كُلُّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ هَاهُنَا تَوَى مُضَافٌ إلَى أَخْذِهِ الْكَفِيلَ بِحَيْثُ إنَّهُ لَوْ لَمْ يَأْخُذْ كَفِيلًا أَيْضًا لَمْ يَتْوَ دَيْنُهُ كَمَا فِي الرَّهْنِ، وَالتَّوْيِ الَّذِي ذَكَرَهُ هَاهُنَا غَيْرُ مُضَافٍ إلَى أَخْذِ الْكَفِيلِ بِدَلِيلٍ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَأْخُذْ كَفِيلًا أَيْضًا لَتَوِيَ بِمَوْتِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ مُفْلِسًا، وَحَمْلُهُ عَلَى الْحَوَالَةِ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ لَا يَتْوَى فِيهَا بِمَوْتِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ مُفْلِسًا بَلْ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمُحِيلِ، وَإِنَّمَا يَتْوَى بِمَوْتِهِمَا مُفْلِسَيْنِ فَصَارَ كَالْكَفَالَةِ. وَالْأَوْجَهُ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ بِالتَّوْيِ تَوًى مُضَافٌ إلَى أَخْذِهِ الْكَفِيلَ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْمُرَافَعَةِ إلَى حَاكِمٍ يَرَى بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ عَنْ الدَّيْنِ بِالْكَفَالَةِ وَلَا يَرَى الرُّجُوعَ عَلَى الْأَصِيلِ بِمَوْتِهِ مُفْلِسًا مِثْلَ أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي مَالِكِيًّا وَيَحْكُمَ بِهِ ثُمَّ يَمُوتَ الْكَفِيلُ مُفْلِسًا إلَى هَاهُنَا كَلَامُهُ فَتَأَمَّلْ.
(بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِقَبْضِ الدَّيْنِ) إذَا أَخَذَ بِالدَّيْنِ رَهْنًا أَوْ كَفِيلًا فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ (لِأَنَّهُ) أَيْ الْوَكِيلَ بِقَبْضِ الدَّيْنِ (يَفْعَلُ نِيَابَةً) أَيْ يَتَصَرَّفُ نِيَابَةً عَنْ الْمُوَكِّلِ حَتَّى إذَا نَهَاهُ الْمُوَكِّلُ عَنْ الْقَبْضِ صَحَّ نَهْيُهُ (وَقَدْ أَنَابَهُ فِي قَبْضِ الدَّيْنِ دُونَ الْكَفَالَةِ وَأَخَذَ الرَّهْنَ) فَيَقْتَصِرُ عَلَى قَدْرِ الْمَأْمُورِ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ (وَالْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ يَقْبِضُ) أَيْ يَقْبِضُ الثَّمَنَ (أَصَالَةً) لَا نِيَابَةً (وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الْمُوَكِّلُ حَجْرَهُ عَنْهُ) أَيْ عَنْ قَبْضِ الثَّمَنِ، فَيَنْزِلُ الْوَكِيلُ فِي ذَلِكَ مَنْزِلَةَ الْمَالِكِ، وَالْمَالِكُ لَوْ أَخَذَ بِالثَّمَنِ رَهْنًا أَخَذَ بِهِ كَفِيلًا جَازَ فَكَذَلِكَ الْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute