لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ رَضِيَ بِرَأْيِهِمَا لَا بِرَأْيِ أَحَدِهِمَا، وَالْبَدَلُ وَإِنْ كَانَ مُقَدَّرًا وَلَكِنَّ التَّقْدِيرَ لَا يَمْنَعُ اسْتِعْمَالَ الرَّأْيِ فِي الزِّيَادَةِ وَاخْتِيَارِ الْمُشْتَرِي. قَالَ (إلَّا أَنْ يُوَكِّلَهُمَا بِالْخُصُومَةِ) لِأَنَّ الِاجْتِمَاعَ فِيهَا مُتَعَذَّرٌ لِلْإِفْضَاءِ إلَى الشَّغْبِ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَالرَّأْيُ يَحْتَاجُ إلَيْهِ سَابِقًا لِتَقْوِيمِ الْخُصُومَةِ
حَتَّى يَرِدَ عَلَيْهِ مَا ذَكَرَ، بَلْ مُرَادُهُ بَيَانُ حَاصِلِ الْمَعْنَى بِمُلَاحَظَةِ دُخُولِ الِاسْتِثْنَاءِ الْآتِي عَلَيْهِ.
قُلْت: حَاصِلُ الْمَعْنَى هَاهُنَا بِمُلَاحَظَةِ الِاسْتِثْنَاءِ الْآتِي أَنْ يَكُونَ التَّوْكِيلُ فِي تَصَرُّفٍ يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى الرَّأْيِ وَلَا يَتَعَذَّرُ الِاجْتِمَاعُ عَلَيْهِ، وَهَذَا أَخَصُّ مِمَّا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، فَبَيَانُ الْمَعْنَى هَاهُنَا بِمَا ذَكَرَهُ لَا يُطَابِقُ الْحَاصِلَ مِنْ كَلَامِ الْقُدُورِيِّ لَا قَبْلَ الِاسْتِثْنَاءِ وَلَا بَعْدَهُ فَلَا يُجْدِي كَبِيرَ طَائِلٍ كَمَا لَا يَخْفَى. وَقَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِ أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ (لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ رَضِيَ بِرَأْيِهِمَا لَا بِرَأْيِ أَحَدِهِمَا) إذْ لَا يَنَالُ بِرَأْيِ أَحَدِهِمَا مَا يَنَالُ بِرَأْيِهِمَا، حَتَّى إنَّ رَجُلًا لَوْ وَكَّلَ رَجُلَيْنِ بِبَيْعٍ أَوْ بِشِرَاءٍ فَبَاعَ أَحَدُهُمَا أَوْ اشْتَرَى وَالْآخَرُ حَاضِرٌ لَمْ يَجُزْ إلَّا أَنْ يُجِيزَ الْآخَرُ، وَفِي الْمُنْتَقَى: وَكَّلَ رَجُلَيْنِ بِبَيْعِ عَبْدِهِ فَبَاعَهُ أَحَدُهُمْ وَالْآخَرُ حَاضِرٌ فَأَجَازَ بَيْعَهُ جَازَ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا عَنْهُ فَأَجَازَهُ لَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، كَذَا فِي الذَّخِيرَةِ.
وَذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ: لَوْ وَكَّلَ رَجُلَيْنِ بِبَيْعِ شَيْءٍ وَأَحَدُهُمَا عَبْدٌ مَحْجُورٌ أَوْ صَبِيٌّ لَمْ يَجُزْ لِلْآخَرِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِبَيْعِهِ لِأَنَّهُ مَا رَضِيَ بِبَيْعِهِ وَحْدَهُ حِينَ ضَمَّ إلَيْهِ رَأْيَ الْآخَرِ، وَلَوْ كَانَا حُرَّيْنِ فَبَاعَ أَحَدُهُمَا وَالْآخَرُ حَاضِرٌ فَأَجَازَ كَانَ جَائِزًا لِأَنَّ تَمَامَ الْعَقْدِ بِرَأْيِهِمَا، وَلَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا أَوْ ذَهَبَ عَقْلُهُ لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ أَنْ يَبِيعَهُ وَحْدَهُ لِأَنَّهُ مَا رَضِيَ بِرَأْيِهِ وَحْدَهُ (وَالْبَدَلُ وَإِنْ كَانَ مُقَدَّرًا) هَذَا جَوَابُ شُبْهَةٍ، وَهِيَ أَنَّهُ إذَا قَدَّرَ الْمُوَكِّلُ الْبَدَلَ فِي الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ لَا يَحْتَاجُ إلَى الرَّأْيِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَنْفَرِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالتَّصَرُّفِ فِي ذَلِكَ كَمَا فِي التَّوْكِيلِ بِالْإِعْتَاقِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَأَجَابَ عَنْهَا بِأَنَّ الْبَدَلَ وَإِنْ كَانَ مُقَدَّرًا (وَلَكِنَّ التَّقْدِيرَ لَا يَمْنَعُ اسْتِعْمَالَ الرَّأْيِ فِي الزِّيَادَةِ وَاخْتِيَارِ الْمُشْتَرِي) يَعْنِي أَنَّ تَقْدِيرَ الْبَدَلِ إنَّمَا يَمْنَعُ النُّقْصَانَ لَا الزِّيَادَةَ، وَرُبَّمَا يَزْدَادُ الثَّمَنُ عِنْدَ اجْتِمَاعِهِمَا لِذَكَاءِ أَحَدِهِمَا وَهِدَايَتِهِ دُونَ الْآخَرِ فَيَحْتَاجُ إلَى رَأْيِهِمَا مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ، وَكَذَا يَخْتَارُ أَحَدُهُمَا الْمُشْتَرِيَ الَّذِي يُمَاطِلُ فِي الثَّمَنِ دُونَ الْآخَرِ فَيَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ أَيْضًا (قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (إلَّا أَنْ يُوَكِّلَهُمَا بِالْخُصُومَةِ) هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ فَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيمَا وُكِّلَا بِهِ دُونَ الْآخَرِ: يَعْنِي أَنَّ أَحَدَ الْوَكِيلَيْنِ لَا يَتَصَرَّفُ بِانْفِرَادِهِ إلَّا فِي الْخُصُومَةِ، فَإِنَّهُ لَوْ خَاصَمَ أَحَدُهُمَا بِدُونِ الْآخَرِ جَازَ.
وَذَكَرَ فِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ: فَإِذَا انْفَرَدَ أَحَدُهُمَا بِالْخُصُومَةِ هَلْ يُشْتَرَطُ حُضُورُ صَاحِبِهِ فِي خُصُومَتِهِ؟ بَعْضُ مَشَايِخِنَا قَالُوا: يُشْتَرَطُ، وَعَامَّةُ مَشَايِخِنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ، وَإِطْلَاقُ مُحَمَّدٍ يَدُلُّ عَلَى هَذَا. قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِ مَا فِي الْكِتَابِ (لِأَنَّ الِاجْتِمَاعَ فِيهَا) أَيْ فِي الْخُصُومَةِ (مُتَعَذِّرٌ لِلْإِفْضَاءِ إلَى الشَّغْبِ) الشَّغْبُ بِالتَّسْكِينِ تَهْيِيجُ الشَّرِّ، وَلَا يُقَالُ شَغَبٌ بِالتَّحْرِيكِ، كَذَا فِي الصِّحَاحِ (فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ) وَلَا بُدَّ مِنْ صِيَانَةِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ عَنْ الشَّغْبِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِيهِ إظْهَارُ الْحَقِّ وَبِالشَّغْبِ لَا يَحْصُلُ، وَلِأَنَّ فِيهِ ذَهَابَ مَهَابَةِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ، فَلَمَّا وَكَّلَهُمَا بِالْخُصُومَةِ مَعَ عِلْمِهِ بِتَعَذُّرِ اجْتِمَاعِهِمَا صَارَ رَاضِيًا بِخُصُومَةِ أَحَدِهِمَا (وَالرَّأْيُ يَحْتَاجُ إلَيْهِ سَابِقًا لِتَقْوِيمِ الْخُصُومَةِ) إشَارَةً إلَى دَفْعِ قَوْلِ زُفَرَ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَيْسَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يُخَاصِمَ دُونَ صَاحِبِهِ لِأَنَّ الْخُصُومَةَ يُحْتَاجُ فِيهَا إلَى الرَّأْيِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute