للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

لَا إتْلَافَ فِي الْمُسَاقَاةِ. وَاَلَّذِي وَقَعَ فِي تَرْتِيبِ الْكِتَابِ تَعْقِيبُ الْمُسَاقَاةِ بِالذَّبَائِحِ لَا تَعْقِيبُ الْمُزَارَعَةِ بِهَا فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ. اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ: جَعَلُوا الْمُزَارَعَةَ وَالْمُسَاقَاةَ فِي حُكْمِ شَيْءٍ وَاحِدٍ بِنَاءً عَلَى اتِّحَادِهِمَا فِي أَكْثَرِ الشَّرَائِطِ وَالْأَحْكَامِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي مَبَاحِثِهِمَا، فَكَانَتْ الْمُنَاسَبَةُ الْمَذْكُورَةُ بَيْنَ الْمُزَارَعَةِ وَالذَّبَائِحِ بِمَنْزِلَةِ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْمُسَاقَاةِ وَالذَّبَائِحِ فَاكْتَفَوْا بِذَلِكَ، وَعَنْ هَذَا تَرَى كَثِيرًا مِنْ أَصْحَابِ مُعْتَبَرَاتِ الْفَتَاوَى كَالذَّخِيرَةِ وَالْمُحِيطِ وَفَتَاوَى قَاضِي خَانٍ وَغَيْرِهَا اكْتَفَوْا بِذِكْرِ كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ وَجَعَلُوا الْمُسَاقَاةَ بَابًا مِنْهَا وَعَنْوَنَوهَا بِالْمُعَامَلَةِ، وَذِكْرُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْمُزَارَعَةِ وَالْمُسَاقَاةِ فِي الْكِتَابِ بِكِتَابٍ عَلَى حِدَةٍ لَا يَدُلُّ عَلَى اسْتِبْدَادِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِذَاتِهَا وَاخْتِصَاصِهَا بِأَحْكَامِهَا، بَلْ يَكْفِي جِهَةُ التَّغَايُرِ بَيْنَهُمَا فِي الْجُمْلَةِ.

أَلَا يَرَى أَنَّهُمْ ذَكَرُوا الصَّرْفَ بِكِتَابٍ عَلَى حِدَةٍ عَقِيبَ ذِكْرِهِمْ كِتَابَ الْبُيُوعِ مَعَ أَنَّهُ أَنْوَاعُ الْبُيُوعِ قَطْعًا كَمَا صَرَّحُوا بِهِ، ثُمَّ إنَّ الذَّبَائِحَ جَمْعُ ذَبِيحَةٍ وَهِيَ اسْمُ مَا يُذْبَحُ كَالذَّبْحِ وَالذَّبْحُ مَصْدَرُ ذَبَحَ إذَا قَطَعَ الْأَوْدَاجَ، كَذَا فِي الْكَافِي وَالْكِفَايَةِ اعْلَمْ أَنَّ بَعْضَ الْعِرَاقِيِّينَ مِنْ مَشَايِخِنَا ذَهَبُوا إلَى أَنَّ الذَّبْحَ مَحْظُورٌ عَقْلًا لِمَا فِيهِ مِنْ إيلَامِ الْحَيَوَانِ وَلَكِنَّ الشَّرْعَ أَحَلَّهُ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ فِي الْمَبْسُوطِ بَعْدَ نَقْلِ قَوْلِهِمْ: وَهَذَا عِنْدِي بَاطِلٌ، لِأَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ كَانَ يَتَنَاوَلُ اللَّحْمَ قَبْلَ مَبْعَثِهِ» وَلَا يُظَنُّ بِهِ أَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ ذَبَائِحَ الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَذْبَحُونَ بِأَسْمَاءِ الْأَصْنَامِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ كَانَ يَذْبَحُ وَيَصْطَادُ بِنَفْسِهِ، وَمَا كَانَ يَفْعَلُ مَا كَانَ مَحْظُورًا عَقْلًا كَالْكَذِبِ وَالظُّلْمِ وَالسَّفَهِ انْتَهَى. وَقَالَ فِي الْعِنَايَةِ بَعْدَ ذِكْرِ ذَلِكَ: أُجِيبَ بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا كَانَ يَأْكُلُ ذَبَائِحَ أَهْلُ الْكِتَابِ وَلَيْسَ الذَّبْحُ كَالْكَذِبِ وَالظُّلْمِ. لِأَنَّ الْمَحْظُورَ الْعَقْلِيَّ ضَرْبَانِ: مَا يُقْطَعُ بِتَحْرِيمِهِ فَلَا يَرِدُ الشَّرْعُ بِإِبَاحَتِهِ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَمَا فِيهِ نَوْعُ تَجْوِيزٍ مِنْ حَيْثُ تَصَوُّرِ مَنْفَعَةٍ فَيَجُوزُ أَنْ يَرِدَ الشَّرْعُ بِإِبَاحَتِهِ وَيُقَدَّمَ عَلَيْهِ قَبْلَهُ نَظَرًا إلَى نَفْعِهِ كَالْحِجَامَةِ لِلْأَطْفَالِ وَتَدَاوِيهِمْ بِمَا فِيهِ أَلَمٌ لَهُمْ انْتَهَى.

وَقَالَ الْعَيْنِيُّ بَعْدَ نَقْلِ مَا قَالَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ: وَالْجَوَابُ الْمَذْكُورُ فِي الْعِنَايَةِ: قُلْت كُلٌّ مِنْ الْكَلَامَيْنِ لَا يَخْلُو عَنْ نَظَرٍ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَذْبَحُ بِنَفْسِهِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ. وَأَمَّا الثَّانِي فَكَذَلِكَ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ ذَبَائِحِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَكَلَ شَيْئًا مِنْ الذَّبِيحَةِ إلَّا بَعْدَ الْبَعْثَةِ انْتَهَى. أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ، لِأَنَّ كَوْنَ النَّبِيِّ يَتَنَاوَلُ اللَّحْمَ قَبْلَ الْبَعْثَةِ أَمْرٌ مُتَوَاتِرٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَذْبَحُ بِنَفْسِهِ عِنْدَ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ أَنْ لَا يُظَنَّ بِهِ أَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ ذَبَائِحَ الْمُشْرِكِينَ كَمَا ذَكَرَهُ، وَالْمُجِيبُ يَمْنَعُ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى جَوَازِ أَنَّهُ كَانَ كَانَ يَأْكُلُ ذَبَائِحَ أَهْلِ الْكِتَابِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>