للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أما دلالةُ العقلِ: فَسَلْ نَفْسَك: أيُّما أَوْلى رَبٌّ يُوصَفُ بما يَدُلُّ على العدَمِ، أو ربٌّ لا يُنَزَّهُ عن الأماكِنِ القذرةِ، أو ربٌّ عالٍ فوقَ كلِّ شيءٍ؟ الجوابُ: الثالثُ، لا شكَّ.

ثم إن العُلُوَّ من حيث هو عُلُوٌّ صفةُ كمالٍ، وإذا كان صفةَ كمالٍ فقد أثبتَ اللهُ لنفسِهِ كلَّ صفةِ كمالٍ، كما قال اللهُ تعالى {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} [النحل: ٦٠]، هذه الدلالةُ عقليَّةٌ.

أما الدلالةُ الفطريَّةُ: فالفطرةُ دَلَّتْ على عُلُوِّ اللهِ، الإنسانُ بفطرتِه قَبْلَ أن يَتَعَلَّمَ أين يتصورُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ؟ في العُلُوِّ؛ ولهذا تَجِدُ الإنسانَ العامِّيَّ الذي لم يقرأْ هذا البحثَ إذا أراد أن يَدْعُوَ اللهَ يتوجَّهُ إلى السماءِ؛ ولهذا قال أبو جعفر الهمَذانيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لإمامِ الحَرَمْيِن الجُوَيْنِيِّ، وهو يُقَرِّرُ الجوينيَّ - عفا اللهُ عنه، ولعلَّهُ تاب فتاب اللهُ عليه - يُقَرِّرُ إنكارَ العُلُوِّ - يعني: إنكارَ الإستواءِ على العرشِ مع العلوِّ - ويقولُ: إن اللهَ تعالى كان ولم يكن شيءٌ قَبْلَه وهو الآن على ما كان عليه، يريدُ أن نُنْكِرَ الإستواءَ على العرشِ والعُلُوَّ أيضًا.

قال له أبو جعفرٍ الهمَذانيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يا أستاذُ، دعنا من ذِكْرِ العرشِ والإستواءِ على العرشِ، أَخْبِرْنَا عن هذه الفطرةِ، ما قال عارفٌ قطُّ: يا اللهُ، إلا وَجَدَ من قلبِهِ ضرورةً بطلبِ العُلُوِّ، سبحانَ اللهِ! ما قال عارفٌ، والعارفُ يُطْلَقُ على الصوفيِّ عندهم، لكنَّ المرادَ هنا ما هو أعمُّ، ما قال عارفٌ قط: يا اللهُ إلا وَجَدَ من قلبِه ضرورةً بطلبِ العلوِّ، جعل يلطِمُ على رأسِهِ ويقولُ: حَيَّرَنِي حَيَّرَنِي (١).

لأنه عاجزٌ عن الإجابةِ.

هذه دلالةٌ فطريةٌ لا يمكنُ لأحدٍ أن يُنْكِرَها، فالحمدُ للهِ الذي هدانا لهذا.


(١) انظر: مجموع الفتاوى (٣/ ٢٢٠).

<<  <   >  >>